"الفنّ محاكاة روح الفنّان للخالق. من خلاله نمجّد الله عند رؤيتنا إبداعات وأعمال الحرفيين. كم مِن مرّة ردّدنا عبارة "سبحان الله" أمام لوحة رسام أو منحوتة مبدِع. كم شعَرنا بتلك النِعم التي حصل عليها بعض البشر دون سواهم، فمنهم مَن يكتب نثراً، ومنهم شعراً، والبعض الآخر يبدع تحفاً وأشغالاً يدوية. مِن تلك الفنون الراقية، النحت على الطريقة الثلاثية الأبعاد، فن شخصي بجدارة، يرتبط برمزية اللحظة الراهنة للفرد، يَحمل عنوان حقبة عزيزة في زمن يستحيل على الإنسان إيقافه، يحتفظ لنا بصورة حيّة لأحباب ما تَمكنّا من الاحتفاظ بوجودهم. فهل أجمل من أن نمسكَ بيد حبيب غيّبته الحياة إلى الأبد؟

صورة طبق الأصل


من حاجات الإنسان الأساسية شعورُه بالتقدير والاحترام، إلى عرفان الآخر لقدراته وعطاءاته. نحتاج للشعور بأننا محبوبون ومميزون، ما يعزّز ثقتَنا بأنفسنا وتقديرَنا لذواتنا، فنشعر بالإشباع. إلّا أنّ حبّ الآخر لنا لا يكفي، فنحن بحاجة لأن نرويَ ظمأ عواطفنا بدورنا، أن نحب.

إلّا أنّ الفراق غالباً ما يداهمنا، فترانا نبحث عن أشياء تَرمز لحبيب أو قريب غاب. قد يغيب الأحباب قسراً، لظروف شخصية، إجتماعية، كالانتقال للعيش في منطقة أخرى، أو حتى في بلد آخر. إلّا أنّ الحب والشوق لهم يبقى حيّاً فينا، ومَن منّا لم يستحضر شخصاً أحبَّه من خلال شيء يُذكّره به، صوته، صورته، قطعة من ثيابه أو حتى رائحة عطره.

كم نحن متعلّقون لدرجة الغرق برمزيات معيّنة، تَنقلنا بالمشاعر إلى حالةٍ تخفّف من حرمان ولوعة الفراق، فنشعر فعلاً بوجود الآخر الغائب، ونعيش هواجسَنا كاملةً، عبر ذكريات تَنقلنا إلى أحلام اليقظة؛ تَنقلنا إلى زمنٍ سابق، مع مَن غاب، إلى أحداث قديمة عشناها معه، نتمنّى رؤية وجهِه من جديد، ولو لبُرهة.

وفي هذا السياق، خاصةً في حال الغياب الأبدي لمن نحب، الوفاة، يَلفت ما تقوم به السيّدة مايا يزبك، من تجسيدٍ لوجود من فقِد، بالرغم من الموت، وذلك من خلال صنعِ صورة طبق الأصل، منحوتة عن يده أو حتى عن وجهه، على الطريقة الثلاثية الأبعاد. فنشعر كأنّنا نحيا معه من جديد، نراه أمامنا وبمتناول عينينا كلّما اشتاقتا لرؤيته.

يد عصام بريدي في منزله


بحسب السيّدة يزبك، التي تعلّمت هذا الفن في أوستراليا، وتابعَت إبداعه في رحاب لبنان، إنّه: "نوع راقٍ جداً من الفنون، يعتمد على رمزية الأشخاص والأوضاع والمناسبات المميّزة في الحياة، كتكريمِ الشخصيات على إنجازاتهم، والأمّ والأب من قبَل الأبناء. كذلك قد يُخلّد الأهل مراحلَ عمر أبنائهم من خلال نحتِ أيديهم وأقدامِهم مرّةً كلّ عدة سنوات.

وقد قدّمتُ خلال مسيرتي المهنية منحوتات لفنانين كثر، كتامر حسني، عاصي الحلاني، الياس الرحباني، روميو لحود، ريما رحمة، وغيرهم، تقديراً لعطاءاتهم.

كما أنّني أفتخر بنحتِ يدِ سيّدنا البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، عربون تقدير وحبّ واحترام، كمرجعية دينية لا تتكرّر. بالإضافة إلى اعتماد تلك المنحوتات كهدايا لجميع المناسبات، من ولادة إلى تذكار القربانة الأولى، زواج وغيرها".

وتشير في حديثٍ لـ"الجمهورية" إلى أنّ "الحدث المؤثّر الأبرز خلال ممارستي لذلك الفن، كان قيامي بنحتِ يدِ المرحوم عصام بريدي، وتقديمها لعائلته، بعد وفاته، وقد أنجزتُ ذلك العمل بالرغم من الألم الذي شعرتُ به نظراً للصداقة العائلية التي كانت تربط عائلتي به. وفي بيت أهل عصام اليوم نسخة طبق الأصل عن يده بتفاصيلها وبصمتها، تُشعِرهم بوجود قطعة حقيقية منه من خلال رمزيتها".

فن مميّز


وتشرح يزبك أنّ "إنجاز أيّ منحوتة على الطريقة الثلاثية الأبعاد ليس بالأمر السهل، فهو يستغرق عملاً شاقاً ومتواصلاً لفترة تزيد عن إثنتي عشرة ساعة. هو فن مميّز، متقَن وعصريّ، يحتاج لمجهود كبير من الكدّ والعمل للحصول على التحفة التي ترضيني.

وأنا أستعمل موادَّ مميّزة، أستوردها من خارج البلاد، منعاً لتسبّبِ أيّ حساسية جلدية. أمّا ما يميّز عملي، فهو الحبّ المرافق لكلّ لحظة تسبق ولادةَ منحوتتي، خاصةً تلك الدقة في اللمسات الأخيرة قبل رؤيتها النور".

إنّ تجسيد أحبّاء لنا من خلال نحتِ الوجه أو اليد أو حتى القدم، مولوداً جديداً كانَ، أو مسِنّاً لا يزال مصدرَ بركة أو حتى شخصاً غادرَنا نهائياً، هو مصدر سعادة، تروي بشكل من الأشكال ظمأَنا، تُخفّف من شعورنا بالضعف، وتُشكّل ذاكرةً لأشياء يستحيل أن تعود من جديد.

هي هدية شخصية جداً، ومميّزة، ملؤها العاطفة. هي تخفّف علينا لوعةَ الفراق الذي ينتظرنا لا محالةَ على مفارق الحياة. باركَ الله أولئك المبدعين، وأدامَ عطاءاتهم نعما تحمل الفرح والحب والسلام".