وهو ما يحمل هذا الأنثروبولوجي على استبعاد وجود «الولاءات الشخصية» بما تنطوي عليه من أصناف التبعية أو على افتراض الضآلة في وجود هذه الولاءات بحيث لم يخلّف وجودها أثراً يذكر. فما عساه يكون المجتمع الخالي من الولاءات الشخصية؟ يقول تستار إن هذا المجتمع الأخير هو الذي تستغرقه علاقات القرابة ويرى مثالاً ساطعاً له مجتمع الأستراليين الأصليين (الأبوريجين). فإن ضروب الممارسة كلّها عند هؤلاء (من اقتصادية ودينية وتزاوجية، إلخ.) تنتظم بمنطق الشبكات القرابية. وذاك أن كلّ أبوريجيني يرى نفسه قريباً من جهةٍ ما لكلّ من يلتقيه.. بما في ذلك الباحث الإثنوغرافي الذي يحاوره مثلاً.
هذا يورثُ عُصَباً قرابية تبقى موسومة باللامساواة فتحتمل التبعية من شخص لشخص ولكن باسم القرابة دائماً. ومن ذلك أن الحرب عندهم تتخذ صورة الثأر. فإذا سقط قتيل، مثلاً، عمدت أرملته إلى مضاجعة رجالٍ تُلزمهم، على هذا النحو، بطلب الثأر للمغدور، ولكن هؤلاء يدخلون في فئة قرابية مقرّرة سلفاً تجمعهم بالقتيل. ويتّسم نظام القرابة في هذا المجتمع بتشعّب وتعقيد بالغين يجعلان قدرته على الاستيعاب غير محدودة. أما القاعدة العامّة التي يشير إليها هذا المثال فهي أن المجتمع المؤسّس كلّياً على القرابة يصبح مقاوماً مبدئيّاً لنموّ ما يسمّيه تستار «العلاقات الشخصية» ولما يتبع ذلك من خصائص بينها احتمال ظهور الدولة.
فكيف ولماذا تولد الولاءات الشخصية حيث لم تكن موجودة؟ يحلّ تستار هذا اللغز بكلمة واحدة حاسمة: الثروة.. فحيث تظهر الثروة تظهر الولاءات وفي ركابها التبعيات.
ففي المجتمعات التقليدية (أفريقيا، ميلانيزيا، أمريكا الشمالية)، لا ينتج نظام ملكية الأرض ريعاً ولا يفضي إلى تراكم ولا وجود للعمل المأجور. وما يتحصّل من منتجاتٍ لا يمكّن من التحكّم بوسائل الإنتاج ولا بالبشر غير المالكين لهذه الأخيرة، بل الثروة مهمّةٌ هنا لصفٍّ آخر من الأسباب. فإن كثيراً من المبادلات الماديّة تقع على منتجاتٍ مشغولة بعناية، ولكن لا «نفعَ» فيها. وإنما تظهر ضرورتها في المبادلات الاجتماعية وأهمّها ما تعلّق بالزواج. تلك وظيفة الثروة «الأعمّ» ههنا، ولكن هذه القاعدة لا تسري في تلك المجتمعات كلّها، ففي بعضها، يدفع الرجل من شخصه، لا من ثروته، للحصول على زوجة. من ذلك، مثلاً، حصة من ناتج صيده يؤدّيها لحماته المفترضة، حتى قبلَ ولادة الزوجة الموعودة، ويثابر على أدائها مدى الحياة، أو هو يتعهّد بخدمة حميّه المقبل مدّةً من الزمن تطول أو تقصر. لا نفع اجتماعيّاً من الثروة ههنا (في أستراليا، في أمازونيا): القتيل، مثلاً، يقابله قتيلٌ أو امرأة ولا تقبل له ديةٌ مادّية.
أمّا النقلة الحاسمة فأورثتها ولادة الزراعة، وهي النقلة من اقتصاد الخدمة إلى اقتصاد الثروة، فحيث راح يمارَس التخزينُ وتربية البهائم، أصبح الزواج يقتضي «ثروةً» منقولة. وأمّا عواقب ظهور الثروة هذا فجسيمة، وأهمّها ظهور التفاوت بين الأغنياء والفقراء. مع العلم أن «مجتمع المساواة» لم يوجد، في قول تستار، تحت أيّ سماء. فحتى الجماعات التي لا ثروة فيها تعرف ضروباً أخرى من التفاوت.
في أيّ حالٍ، لا يسع الفقير الزواج، حيث تصبح الكلمة للثروة، إلا بإنعامٍ من ذوي الاقتدار: ذاك هو منطلق العلاقة بين «المعلّم» و»المحسوب». في مجتمعات أستراليا الأصلية، يتوفّر والدُ الفتيات على سلطة، ولكنها تبقى محدودةً بإملاءات القرابة وبعدد الفتيات القابلات للتزويج. هذه الحدود تضمحلّ حيث تصبح الثروة، لا القرابة، أساس المحسوبية. النقلة – أو القطيعة – الثانية، في مجتمعات اللادولة، هي ظهور الرّق. وذاك، قبل كلّ شيء، أن العبد لا نَسَبَ له، فحتّى المسترَقّ بالدَيْن يجري إخراجه من نَسَبه، هذا أمرٌ يتعذّر تصوّره في مجتمع أستراليّ أصليّ. في مجتمعات المحسوبية، يستقيم أن تنشأ علاقات خارجَ نطاق القرابة مع أناسٍ يبقون ذوي قرابةٍ بآخرين. أمّا الرّق فيمنح سلطةً تامّةً على الواقعين فيه لا تَمنح المحسوبية مثيلاً لها. فهي سلطة على أتباعٍ لا أقاربَ لهم يتكشّفون عن ولاءٍ راسخ. ولا يندر أن يُلحَق العبد بنسبِ سَيِّدِه إذا أصبح عجوزاً أو كان مولوداً من محظيّة. يحصل هذا حتى في المجتمعات الأمومية. ولا يفوت تستار التنويه بما تثيره طواعية العبد من استغراب في زمننا الأليف لمثال التمرّد. تلك طواعية لا تحجب وجود العبيد «السيّئين» – «الأنجاس المناكيد»، بعبارة المتنبّي – وقد وُجِدت للخلاص من هؤلاء طرقٌ مختلفة: «الأضحيةُ»، مرافَقةُ السيد في ضريحه وتجوز على «الحَسَن» وعلى «السيّئ»، الحربُ ويُفْتك فيها بالذكور البالغين، عادةً، ويستبقى الصغار والنساء أسرى، وتبقى الحرب مصدرَ الرقيق الأوّل وهي، فَوْقَ ذلك، تشدّ العُرَى، في كلٍّ من جهتيها، ما بين القائد وأتباعه.
ونحن لا نعلم متى وُلد الرّق. ولكن نعلم أنه يولد في مجتمعات تعرف «الثروة» وأن ولادته سابقةٌ لولادة الدولة. يولد حيث يوجد زرّاعون أو صيّادون- قطّافون يمارسون التخزين. لم يأتِ المسلمون ولا المستعمرون الأوروبيون بالرقّ إلى أفريقيا مثلاً. ولم تتوسّع رقعته بـ»الانتشار» من المجتمعات ذات الدول إلى غيرها. فإنما الرقّ مؤسّسة ضاربة في القدم عرفتها أفريقيا الدول وأفريقيا اللادول، وعرفها جنوب شرق آسيا وأمريكا الشمالية. فيما امتنع ظهوره في مجتمعاتٍ من الصيّادين ـ القطّافين هي تلك التي لم تعرف التخزين، وهي نفسها المجتمعات التي لم تعرف الممالك.
يعزو تستار وجود الرقّ في مجتمعات بعينها، وغيابه عن أخرى تنتمي إلى الفئة عينها لجهة نمط الإنتاج، إلى انشعابٍ في مسار التطوّر. فيرى أن المجتمعات ذات «الثروة» يبقى محتملاً فيها قبول الرقّ ورفضه. ولكن الإقبال عليه يرجّح اشتداد بأس السلطة. ويوحي المجموع الفرعي الذي يمثّله الاسترقاق بالدَيْن بانشعاب في تصوّر الجماعة لنفسها يجعل بعض الجماعات تتقبّله فيما تأنف منه أخرى. ولكنّ الرقّ بالدَيْن، إذ يقترن بسيادة الثروة وبالرقّ الخارجي، يرفع درجةً أخرى شدّةَ بأس السلطة. ولا غروَ أن المجتمعات التي يحصل فيها هذا الاقتران هي نفسها التي تزدهر فيها أنواع الولاء الشخصي كلّ الازدهار. وما ينشأ من ذلك، صيغةً للسلطة، ليس سوى دولة الاستبداد. على أن هذه لا تلبث أن تنحو نحو تنظيمٍ آخر للولاء ينتهي إلى إحلال جيش من البيرقراطيّين محلّ أهل الولاء الشخصي. يستوي هذا الاستبدال، حيث يمكن، شرطاً لتماسك سلطة الدولة التي تكون عوامل الولاء الشخصي قد أخذت تخلخل أركانها بعد أن كانت عواملَ لإرساء استبدادها.
وجدتُ لكتاب تستار هذا فوائدَ يمكن أن يجنيها منه منتمون إلى «قارّتنا» الفكرية، وقد طَبَع جهود كثير من مثقّفيها لتمثّل بنى مجتمعاتهم وتفسير حركتها، ووصف القوى الضالعة في هذه الحركة تصوّرُ «العصبية» المقترض من ابن خلدون مباشرةً، على اختلاف في وجوه استعمالهم هذا التصوّر، وهذه جهودٌ تُستأنف اليوم، معتمدةً المقاربة نفسها، فيما نرقب صمودَ بنى الاستبداد هنا وهناك لصدمات قوى التغيير واستيلادَ البنى ضروباً من الاستبداد تَخْلف أخرى. فنحن نستدعي لتفسير ما نعاينه عصبيّة الطائفة أو عصبيّة القبيلة أو صيغَ مزجٍ بينهما قد يداخلها بُعْدُ العصبية القومية أو شبه القومية أيضاً. لا ريب في وجاهة هذا الاستدعاء. ولكن ما تنبّه إليه قراءة تستار هو إمكان أن يكون الاستغراق في مشاهد يبدو انفجار العصبيات طاغياً عليها قد حجب عنّا تكاوين وعوامل أخرى هي وحدها القادرة على سدّ عجز العصبية التفسيري الذي يسهل الوقوف عليه، عند طرح مسائل عدّة ذات وجاهة، إذا نحن لجمنا شيئاً ما غوايةَ هذا التصوّر. هذا مع العلم أن ابن خلدون يستوقف تستار مليّاً… ولكن من الجهة الأخرى للعصبية: من جهة العوامل الضالعة في ضرب العصبية وإبعادها عن ساحة السلطة وليس من جهة استوائها أساساً لهذه الأخيرة.
ذاك أن تستار يعرض حالاتٍ يتّضح معها أن الأساس العصبيّ للاستبداد لا هو واجب الوجود ولا هو كافٍ إذا وُجد. استطراداً يجعل وجودُ الأسس الأخرى إمكانَ «صمود» الاستبداد، في وجه خصومه، بعصبية ضعيفة أو ضئيلة أمراً لا يعصي على الفهم… ويوجب التفاتَ الخصوم إلى الأسس الأخرى أيضاً.
ما يبرزه تستار ليس مثولَ الدِين (أو الطائفة) ولا مثولَ القرابة أو النَسَب في واجهة الفعل بل إيثاقَ المصائر الشخصية إلى شخص المستبدّ. وهو أمر تبقى السلطة الشخصية قادرةً عليه حتى في الدولة المركّبة إذ هي تنحو نحو إحالة العلاقة المركّبة أو التسلسلية بالسلطة إلى علاقة شخصية. وفي الدول العصرية، يمنح استبقاء التركيز في سلطة التصرّف بموارد الدولة ومقدّراتها وأجهزتها شخصَ الحاكم قدرةً مهولة على شخصنة الاستتباع. فيسع «العنفَ المحتكَر»، بناءً على قاعدةٍ من هذا القبيل، أن يتفلّت من كلّ عقال. وذاك أن استتباب الشخصنة في قمّة الدولة تسْهُل معه أشياء كثيرة: تهميشُ الضوابط السياسية والقانونية بتهميش القانون نفسه أو باستسهال خرقه كلّما لزم الأمر، تهميشُ المؤسّسات القائمة بحكم الدستور والعاملة بموجب القانون، بالتالي، تهميشُ السياسة بما هي تنظيمٌ مستقلّ للقوى الاجتماعية وتقابلٌ وتفاعلٌ بينها يتمخّضان عن تدبيرٍ للشأن العامّ، إلخ… عِوَضَ هذا كلّه، وهو كلّه أصولٌ وهيئاتٌ وأعمالٌ معرّضة لفعل الزمن، يظهر «الأبد» على أنه صفةٌ طبيعيّةٌ للمستبدّ.
من جهة «الرعيّة»، يُبرز تستار ما يسمّيه الرقّ الطوعي عنواناً عريضاً لا نراه يُخرج من دائرته الرقَّ الآخر فعلاً إذا انتبهنا إلى تشديده على غلبة الولاء في سلوك العبيد وعلى رسوخه. ولكن الازدواج الماثل في عبارة «الرقّ الطوعي» قد يشي، متى خرجنا من دائرة الرقّ المؤسّسي، بترجّح رعايا الاستبداد ما بين التسليم بالاستبداد خوفاً وتجاوز الخوف إلى الولاء لشخص المستبدّ والتعلّق الشديد به. في كلّ حال، يوحي تصوّر الرقّ الطوعي، إذ يندرج في مساق بحثٍ في «العلاقات الشخصية» ودولة الاستبداد، بوجود قوّة إسنادٍ للاستبداد تقع في خارج النطاق العصبي، ولكن لا يحول حائل مبدئي دون اختراقها هذا النطاق وطبْعِه بطابعها أيضاً. على أن دائرة «العلاقة الشخصية»، وهي واسعة جدّاً في حال من يحتكر التصرّف بمقدّرات دولة، تبقى نابذةً مهما اتّسعت. فتنحو إلى استبعاد كثرةٍ من الرعايا وتشكيكهم في صلاح الحال، التي هم وبلادهم فيها وإلى تهيئتهم للتمرّد حالما تجتمع شروطه. ولكن هذه حكاية أخرى هي حكاية «الدولة والثورة» لا حكاية «الدولة والثروة» التي يخلص إليها كتابُ تستار.
تبقى ملاحظةٌ أخيرة: وهي أن انتهاء تستار إلى تنصيب «الثروة» شرطاً لظهور الدولة يردّنا إلى نقده نظرية الدولة الماركسية (أو الإنجلزية، على التحديد) في الصفحات الأولى من كتابه. فهذا التنصيب يبدو للناظر المتعجّل عودةً إلى الاقتصاد بما هو صاحب القول الفصل في توجيه الحركة التاريخية للمجتمعات، وإلى الطبقة الاجتماعية بما هي ركنٌ ركين لبنية المجتمع. ولكن هذا الفهم لتستار تعتوره العجلة فعلاً. وذاك أن «الثروة» تبدو له مسخّرةً في المجتمعات التي هي مدار بحثه، لتحصيل السلطة وحفظها ونمائها لا العكس. وهو قد كان أوضح أن الموازنة الحسّية بين دور السلطة ودور الثروة في مجتمعاتٍ مختلفة التكوين لا تفضي بالضرورة إلى اعتبار أيّ منهما وسيلة مؤبّدة يقتصر دورها على طلب الأخرى المجلـّلة، من جهتها، بأبّهة الغاية وعلى نمائها وحمايتها. ذاك أيضاً أن مثال «العلاقة الشخصية» نفسه، وهو ما هو في تصوّر هذا الباحث لأصل الدولة، مثالٌ صعب الإدراج في المنظور الطبقي. ولكن هذا كلّه حديثٌ (طويلٌ) آخر أيضاً.