توحي تركيبة الحكومة من حيث العدد والأحجام والحقائب بأنّ هناك قراراً باستيلادها بأيّ ثمن. ولعلّ الأبرز هو العدد المفتعل لوزراء الدولة الذين وزِّعت الألقاب والوظائف عليهم أحياناً لمجرد تبرير وجودهم. فقد حلّت مشكلات التمثيل المتناقضة بإيجاد مقاعد للجميع على طاولة مجلس الوزراء، ولو كانوا «بلا شغل».
لقد تمّ إرضاء الجميع (باستثناء وضعية حزب الكتائب)، ولم يخرج أحد مهزوماً من المعركة. ونشأت حكومة «الفيتوات» العجيبة. ففي الشكل على الأقل، «14 آذار» تمتلك الثلث المعطل («المستقبل» و«القوات اللبنانية»)، و«8 آذار» تمتلك أكثر بكثير من «الثلث المعطل» (الثنائي الشيعي وعون الرئيس و«التيار»)، وتحالف معراب (عون الرئيس و«التيار» و«القوات») يمكن أن يجمع أكثر من الثلث.
فابتكار هذه الصيغة أدى إلى طمأنة الجميع ونزع هواجسهم، ودفَعهم إلى تسهيل تشكيل الحكومة. وإذا التزم عون الحدّ الأدنى من الحياد في الممارسة، فإنه سيقيم توازناً داخل الحكومة يمنع أي طرف من التفرد بالقرار.
وواضح أنّ هناك غلبة عددية لفريق «8 آذار» داخل الحكومة، في موازاة رمزية بعض الأسماء والوجوه التي تذكّر بالمرحلة السورية، لكنّ «14 آذار» لم تعتبر ذلك حجر عثرة. فـ«المستقبل» يحتفل بعودته القوية إلى السراي و«القوات» سجَّلت إنجازاً حكومياً غير مسبوق.
وفي العمق، يتعاطى الجميع مع الحكومة بصفتها مرحلة انتقالية لا بأس في إمرارها بأقلّ ما يمكن من الخسائر، على أمل تحقيق الأرباح بعد الانتخابات النيابية.
فـ«الثنائي الشيعي» حقَّق ما يمكن من مكاسب، ولم يفتعل أزمة في تمثيل «القوات» وعون و«التيار» بهذا الحجم، لأنّ الحكومة لن تعيش سوى أشهر، ولا إنجازات متوقعة منها سوى الانتخابات. وبعد ذلك، سيكون لكل حادث حديث.
وفي اتجاه معاكس، يعتقد عون أنّ قبوله بهذه الحكومة ضروري لإمرار الأزمة. لكنه يراهن على أنّ حكومة العهد الأولى ـ الحقيقيةـ ستكون بعد الانتخابات. وعندئذٍ سيكون رئيس الجمهورية قادراً على فرض حضوره، وإلى جانبه مجلس نيابي صحيح التمثيل مسيحياً وحكومة ناتجة عنه. وطبيعي أن يكون هذا أيضاً رهان «القوات».
أما الحريري فيرى أن لا بأس بإنجاز عودته إلى بيروت والسراي الحكومي وتعويم الزعامة و»المستقبل»، وسط ظروفه الصعبة. ومن البديهي أن تكرِّس الانتخابات مساره الانفراجي.
إذاً، الجميع ينتظر الجميع «على كوع» الإنتخابات النيابية. ويقول كل طرف من جانبه: لا بأس في إمرار الحكومة بما تيسَّر في المرحلة الانتقالية. فالظروف ستكون أفضل بعد الانتخابات.
وفيما انتصار هذا الطرف على ذاك في الانتخابات النيابية، وبعدها، يبقى مسألة فيها نظر، فالمؤكد هو أنّ هذه الانتخابات باتت متوقعة فعلاً في موعدها، وأن لا تمديد جديداً للمجلس النيابي.
وهنا أساساً، أي في الانتخابات النيابية، يكمن سرّ الأسراع في تأليف الحكومة. إذ يكشف المواكبون لملف تأليف الحكومة أنّ «الدلع» في المطالب والمطالب المقابلة حسَمته كلمة سرّ دولية قضَت بإنجاز الحكومة سريعاً وعدم إضاعة المهل، لأنّ الانتخابات النيابية مطلوبة، وفي مواعيدها الدستورية.
ولذلك أيضاً، كان واضحاً لماذا أعلن الرئيس سعد الحريري فور تشكيل الحكومة أنّ بيانها الوزاري سيعتمد «خطاب القسَم» نموذجاً. فهذا يعني ولادة سريعة للبيان، يجري على أساسه مثول الحكومة أمام المجلس قريباً لنيل الثقة والشروع جدياً في التحضير للانتخابات مع مطلع السنة الجديدة، علماً أن النقاش جارٍ في الكواليس حول قانون الانتخاب.
والهواجس التي عبّر عنها النائب وليد جنبلاط أخيراً إزاء النظام النسبي في قانون الانتخابات، تكشف أولاً أنّ الانتخابات باتت مسألة جديّة، وأنّ النسبية مطروحة فعلاً، ولو جزئياً.
قد تؤدي حملة جنبلاط خدمة لجميع رافضي النسبية، ولا سيما منهم «المستقبل» و«القوات»، وتضغط نحو اعتماد النظام الأكثري. وهذا ما يستثير «الثنائي الشيعي»، وربما عون، ما يضع الجميع أمام مواجهة قاسية حول قانون الانتخاب، تُسابق انتهاء المهل الدستورية.
إذا حصل توافق على أسس القانون العتيد في الربيع المقبل، فقد يكون مسموحاً تأخير الإنتخابات لضرورات تقنية بضعة أشهر، خلال الصيف، يُصار خلالها إلى إنجاز القانون والترتيبات الانتخابية. ولكن، قد يجد الجميع أنفسهم عاجزين عن إنتاج القانون، فيما «كلمة السرّ» الدولية هي إنجاز الانتخابات أيّاً كان القانون.
إنّ ما يرشح من الموفدين الدوليين ومجموعة الدعم الدولية في شأن حتمية إجراء الانتخابات النيابية «وعلى الأسس التي تحترم المعايير الديموقراطية السليمة» واضِح. ويعني ذلك أنّ إجراء الانتخابات مطلوب، ولو بقانون العام 1960، إذا تعذَّر إنتاج القانون الجديد.
إن المنطق الذي فرض تشكيل الحكومة فجأة، أياً كان الثمن وعلى رغم كل العثرات، هو إياه الذي سيفرض إمرار الانتخابات النيابية أياً كان الثمن، وبقانون الـ60 إذا فشلت المحاولات لإنتاج قانون جديد. وعلى الجميع أن يراجع حساباته على هذا الأساس.