تقف الحكومة اللبنانية الجديدة على عتبة الاستحقاق الانتخابي المُقبل في أيار 2017 مُترنحة، على وقع الملفات الإقليمية والداخلية المُعقدة التي تشكلت خلالها. ومع إعلان الرئيس سعد الحريري أن حكومته هي "حكومة انتخابات"، يُشكل توافق الطبقة السياسية على قانون جديد لانتخابات مدخلاً لإشراف حكومة الحريري الثانية على إجراء هذا الاستحقاق في موعده.
كما لا يمكن الفصل، من خلال قراءة التركيبة الحكومية، بين التطورات السياسية المحلية والشأن السوري. ذلك أن التشكيلة المُوسعة التي تبناها الحريري لم تقدم لفريقه السياسي أو لحلفائه أي مكسب فعلي، بعكس فريق الثامن من آذار الذي ترجم تقدم عموده الفقري (حزب الله) على الأرض السورية بفريق وزاري من 17 مقعداً، مقابل 13 للحريري وحلفائه.
وسيُشكل البيان الوزاري أول التحديات الفعلية أمام الحكومة الجديدة، التي سيُحدد بيانها توجهاتها الاقتصادية والسياسية، وعلاقاتها الخارجية. وقد عكس الرئيس الحريري رغبة في التلاقي مع مُختلف الأطراف السياسية حول بيان وزاري مقبول، من خلال دعوته لاعتماد خطاب القسم الذي ألقاه الرئيس ميشال عون بعد انتخابه في 31 تشرين الأول الماضي كبيان وزاري للحكومة. وهو بيان نصّ على حق مقاومة العدو الإسرائيلي، مع التشديد على "منع انتقال أي شرارة من النيران المشتعلة حولنا في المنطقة إلينا"، و"الابتعاد عن الصراعات الخارجية، والالتزام بميثاق جامعة الدول العربية وبشكل خاص المادة الثامنة منه، مع اعتماد سياسة خارجية مستقلة تقوم على مصلحة لبنان العليا واحترام القانون الدولي".
ومع تأكيد مسؤولين في "حزب الله" أن البيان الوزاري سيحافظ على الشرعية الرسمية الممنوحة لسلاحه، قدّمت الحكومة السابقة برئاسة الرئيس تمام سلام نموذجاً في الصياغة أبقى على الشرعية الفعلية، مع مراعاة تطلعات جزء من الرأي العام اللبناني الرافض لسلاح الحزب بعد استخدامه في الداخل (أحداث السابع من أيار 2008)، وفي المعارك الإقليمية (سورية واليمن والعراق)، ولكن دون تغيير فعلي في الشرعية الممنوحة للسلاح. حصل ذلك من خلال استبدال عبارة "ثلاثية الشعب والجيش والمقاومة"، بعبارة "الحق للمواطنين اللبنانيين في المقاومة للاحتلال الإسرائيلي ورد اعتداءاته واسترجاع الأراضي المحتلة".
وفي ملف الانتخابات، ترك الدستور اللبناني مسألة التصويت على مشاريع القوانين، ومنها قانون الانتخابات، للبرلمان. لكن الواقع السياسي "التوافقي" في لبنان يعني أن القانون الجديد محكوم باتفاق القوى السياسية (الطائفية) عليه في الحكومة وفي مجلس النواب. وتُشكل المواقف المُعلنة لمعظم القوى السياسية التي ترفض إجراء الانتخابات المُقبلة وفق القانون الأكثري الساري حالياً (المعروف بقانون الستين)، مدخلاً لإقرار قانون جديد. لكن تبني هذه القوى لأشكال مُختلفة من النظام الانتخابي النسبي أو المُختلط (يجمع بين النظامين الأكثري والنسبي)، يترك مجال النقاش مفتوحاً. وتبرز في هذا المجال دعوة "حزب الله" إلى إقرار النسبية الكاملة مع تحويل لبنان إلى دائرة واحدة، وهي دعوة يطلقها الحزب من موقع المُسيطر على القرار اللبناني بقوة سلاحه المنتشر في الإقليم.
وقد سبق لرئيس مجلس النواب نبيه بري، أن دفع باتجاه تقليص عدد مشاريع القوانين الانتخابية المطروحة على الهيئة العامة للمجلس بهدف اختصار الوقت وتأمين إقرار سريع للقانون الجديد. وتلاقت جهود بري في مرحلة لاحقة مع الجولات السياسية التي نفذها نواب "تكتل التغيير والإصلاح" الداعية لـ"الفصل بين مسار تشكيل الحكومة، وبين الجهد التشريعي لإقرار قانون انتخابي جديد يعكس تطلعات اللبنانيين في العهد الرئاسي الجديد". وقد أكد الرئيس الحريري خلال إعلان تشكيل الحكومة على "عدم معارضة" فريقه السياسي لاعتماد النسبية في الانتخابات، وذكّر بمشروع القانون الانتخابي المُختلط الذي تقدم به "تيار المستقبل" مع "الحزب التقدمي الاشتراكي" و"حزب القوات اللبنانية" في مجلس النواب.
وتبقى جدية المواقف السياسية بشأن الانتخابات رهينة الوقت القصير الفاصل بين إقرار القانون وموعد الانتخابات بعد 6 أشهر. مع العلم أن وزير الداخلية نهاد المشنوق، قد أكد استعداد الوزارة للإشراف على إجراء الانتخابات وفق قانون الستين، وحاجتها لـ"تمديد تقني" في حال إقرار قانون انتخابي جديد لـ"تثقيف العاملين والمواطنين عليه". وسيحوز القانون الجديد على مساحة نقاش واسعة في الحكومة قبل انتقاله إلى البرلمان للتصويت عليه في حال تم التوافق بشأنه.
ويبدو أن الحريري قد نجح إلى حد بعيد في جمع معظم القوى السياسية على طاولة مجلس الوزراء التي تنعقد للمرة الأولى، غداً الأربعاء، بعد أن ضمّ 6 وزراء من "تيار المستقبل" إلى جانب منصب رئيس الحكومة، و5 وزراء من حصة رئيس الجمهورية، و3 وزراء لكل من "حزب القوات اللبنانية"، "التيار الوطني الحر"، "حركة أمل"، ووزيرين لكل من "حزب الله"، و"الحزب التقدمي الاشتراكي"، ووزير واحد لكل من "الحزب السوري القومي الاجتماعي"، و"الحزب الديمقراطي"، و"اللقاء الديمقراطي"، و"حزب الطاشناق"، و"تيار المردة". كما حجز وزير السياحة السابق ميشال فرعون، مقعداً وزارياً "مستقلاً"، هو وزير الدولة لشؤون التخطيط. وكما في حكومة الرئيس تمام سلام، كانت حصة المرأة اللبنانية مقعداً وزارياً واحداً حجزته السيدة عناية عز الدين، كوزيرة دولة لشؤون التنمية الإدارية، وهي من "حركة أمل".
وفي مفارقة ليست الوحيدة في حكومة الحريري الثانية آلت وزارة الدولة لشؤون المرأة إلى رجل، وهو الوزير جان أوغاسبيان، أحد ممثلي "المستقبل" في هذه الحكومة. كما رصد الناشط والمدون اللبناني عماد بزي، مجموعة مفارقات في هذه الحكومة، كـ"إطلاق وزير الدولة لشؤون النازحين معين المرعبي، النار في الهواء قرب حاجز لقوى الأمن في البداوي، شمالي البلاد، بهدف إزالته، والقرابة المباشرة بين وزير الدولة لشؤون حقوق الإنسان أيمن شقير، ورئيس أركان الجيش السوري السابق شوكت شقير (نجله)، وحمل وزير الدفاع الوطني يعقوب الصراف، للجنسية الفرنسية، وتهرب وزير العدل سليم جريصاتي من الضرائب، وشغل سيزار أبي خليل، وزير الطاقة الحالي، لمنصب مستشار وزير الخارجية جبران باسيل منذ 2009، وانتماء وزير العمل محمد كبارة، للفريق السياسي الذي يدير مؤسسات لم تدفع لعمالها وموظفيها رواتبهم على مدى سنوات.
وغاب عن التشكيلة الثلاثينية "حزب الكتائب اللبنانية" الذي رفض أن يتمثل بحقيبة دولة، وسيواكب المرحلة السياسية المُقبلة من باب المعارضة. بعكس حزب "القوات اللبنانية" الذي انتقل من عدم المشاركة في حكومة الرئيس تمام سلام، إلى مشاركة واسعة في وزارات الصحة، والإعلام، والشؤون الاجتماعية. وهي مشاركة يختلف المراقبون في تقييمها، بين من يعتبرها ترسيخاً للتحالف مع "التيار الوطني الحر"، وبين من يعتبرها دون المستوى بعد أن فشل الحزب في الحصول على إحدى الحقائب "السيادية" الأربع (الخارجية، والداخلية، والدفاع، والمالية)، في مقابل حصوله على نيابة رئاسة الحكومة.
وفي التقسيم اللبناني للمناصب الوزارية باعتماد المعيار الطائفي، أتت التشكيلة مناصفة بين المسلمين (سنة وشيعة ودروز) والمسيحيين (موارنة، وروم أورثوذكس، وروم كاثوليك، وأرمن). كما تمّ تقسيم الحقائب "السيادية"، و"الخدماتية" (الصحة، والشؤون الاجتماعية، والأشغال، والطاقة والمياه) بين الطوائف الكبرى. كما أُبقي على ثلاثة أسماء على حالها (نهاد المشنوق للداخلية، وجبران باسيل للخارجية، وعلي حسن خليل للمالية). مع العلم أن عملية التشكيل تخللتها خلافات حول تقاسم الحقائب الخدماتية التي تستفيد منها الأحزاب لتقديم "خدمات" لأنصارها، ولمحيطها الطائفي أو المذهبي، فآلت الأشغال لـ"تيار المردة"، والصحة والشؤون الاجتماعية لـ"القوات"، والطاقة والمياه لـ"التيار الوطني الحر". وفي خضم التقسيم الطائفي للمناصب بعد توسيع الحكومة لتضم 30 وزيراً، تم إنشاء سبع وزارات دولة لشؤون مجلس النواب، ورئاسة الجمهورية، وشؤون المرأة، والنازحين، والتخطيط، ومكافحة الفساد، وحقوق الإنسان، إلى جانب وزارة الدولة لشؤون التنمية الإدارية التي ترأسها السيدة عز الدين.
وقد انعكست هذه التشكيلة على صعد عدة، أهمها إبراز تمسك "حزب الله" و"حركة أمل" بتوزير أكبر عدد من حلفائهم في الحكومة، ولا سيما "تيار المردة"، في مقابل فشل الحريري في تقديم حصة وزارية لـ"حزب الكتائب اللبنانية". ويُستثنى من التوافق شبه التام بين حلفاء "حزب الله"، الوزير السابق وئام وهاب والوزير طلال أرسلان اللذان يخوضان معركة أحجام ضمن بيئتهما الدرزية. كما أدىّ حرص الحريري على موازنة التوزيع السياسي للمناصب الوزارية، إلى بروز حالة اعتراض مناطقية على توزيع المقاعد، لا سيما في قضاء كسروان ذي الثقل الانتخابي المسيحي (حوالي 95 ألف ناخب) والذي لم يُمثل بالمُطلق، واقتصار تمثيل مدينة طرابلس ذات الثقل الانتخابي السني (حوالي 200 ألف ناخب) على وزير واحد فقط.
يخوض الحريري اليوم تجربته الثانية في رئاسة الحكومة مع تمثيل أغلبية القوى السياسية التي واكبته في حكومته الأولى عام 2009 في الحكومة الحالية. وإن لم تكن شبكة التحالفات الثنائية المعقدة التي صيغت لتشكيل هذه الحكومة كافية، فإنها قد تواجه مصير الحكومة الأولى التي أسقطتها استقالة الوزراء الشيعة منها ومعهم وزراء "التيار الوطني الحر". وعلى الرغم من التغييرات الواسعة التي طرأت على المشهد الإقليمي، تبقى معظم الأولويات المحلية في لبنان على حالها منذ 2009 إلى اليوم، من الأوضاع المعيشية إلى الحفاظ على الاستقرار السياسي والأمني، والاستثمار في قطاع النفط والغاز، مع عامل اللجوء السوري المُستجد نتيجة القضية السورية.