هزيمة المعارضة السورية في حلب على يد التحالف الإيراني- الروسي منعطفٌ حاسم، و"نقطة تحول" تتجاوز أبعادها ودلالاتها وتداعياتها مدينة حلب، بوصفها عاصمة المعارضة السورية، وحتى المشهد السوري بأسره، وتمتد إلى الحالة السياسية والمجتمعية والثقافية العربية عموماً.
نحن على مفترق طرق؛ فعلى صعيد النظام وحلفائه، هناك تحضير لعودة محادثات التسوية للأزمة السورية، برعاية روسية- إيرانية، في الآستانة- كازاخستان، وهو يرتبط بالضغوط التي يمكن أن تمارسها كلتا الدولتين على حلفائهما للقبول بحلول بسقف توقعاتٍ أقل، وتبدو المعضلة هنا في "الشعور بالانتصار" الذي يحكم الإيرانيين والنظام السوري، ما قد يكشف حجم التباين بين الأجندتين الروسية والإيرانية فيما يتعلّق بمستقبل سورية، إذ يرى الإيرانيون أنّهم هم أصحاب الانتصار والأحقّ بجني ثماره.
وفي حال فشلت مفاوضات التسوية، فإنّ النظام السوري أصبح متحمّساً لإنهاء المعارضة المسلّحة في مناطق أخرى، والأكثر ترشيحاً للخطوة المقبلة هما الغوطة الشرقية في ريف دمشق، التي ما يزال فيها وجود مسلّح، لكن الخلافات (الشبيهة بتلك في حلب) تقصم ظهر المعارضة هناك، وقد أدى الصدام المسلّح بين جيش الإسلام ولواء الرحمن إلى خسارة قرى وبلدات ومناطق عديدة لصالح النظام في الشهور الماضية، وهنالك من يرشّح إدلب، نظراً لقوة جبهة الفتح فيها، ما يعطي مسوّغاً للنظام والروس على اعتبار أنّ جبهة النصرة (العمود الفقري لجبهة الفتح) فصيل مصنّف إرهابياً لدى الدول الكبرى وقرارات الأمم المتحدة.
(تُعتبر ضمن المهمات الأميركية مع الأكراد) وريف دير الزور، وجزء من ريف حمص مع مدينة تدمر، وتقع جميعاً في أيدي تنظيم الدولة الإسلامية، ومحافظة درعا التي يقع أغلبها في يد الجيش الحرّ. لكن، بصيغته المدجّنة والهجينة، الخاضع بالكلية لغرفة العمليات العسكرية الموك (الأردن والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا)، وهنالك وجود لكل من النظام وتنظيم الدولة الإسلامية (عبر جيش خالد بن الوليد، في ريف درعا الغربي).
على الرغم من الحالة المرهقة والضعيفة التي قد تبدو عليها المعارضة المسلّحة، والحالة المعنوية السيئة للمعارضة السياسية في الخارج، التي تبدو معزولةً وتحت الضغوط الهائلة من الحلفاء والأصدقاء الذين انقلبوا عليها، لكن ذلك لا يعني أنّ ما تبقى من مناطق بمثابة "قطعة كيك" سهلة المنال، بل على النقيض من ذلك، يدرك الروس أنّ إدلب ودير الزور والرقة هي "المعادلات الصعبة"، نظراً لوجود الجماعات السلفية الجهادية بقوة فيها، وهي جماعاتٌ ذات تكتيكات عسكرية أكثر شراسة وعناداً. لذلك، سيفضل الإيرانيون والروس، في حال استُؤنفت المعارك المسلّحة، أن يتم البدء بالغوطة الشرقية.
أمّا على صعيد المعارضة السورية، فهي في حالة "الصدمة" بعد خسارة حلب، إذ ما تبقى، عملياً، المحافظات المتبقية للمعارضة المسلّحة التي لا يوجد تأثير لائتلاف المعارضة السياسية عليها (تنظيم الدولة وجبهة فتح الشام)، بالتزامن مع انتخاب الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، الذي سيتواطأ مع الروس، على الأغلب، ومع التحول الواضح في الموقف الأوروبي والغربي عموماً، والأهم من ذلك الشعور بالمرارة وخيبة الأمل من الاستدارة التركية (حدثت بعد محاولة الانقلاب الفاشلة)، وربما المتغير الحاسم في موضوع حلب هو الموقف التركي.
تتمثل النتائج الأولية على المعارضة السورية في الارتباك والتلاوم، والوصول إلى مرحلة "جلد الذات"، والبكائيات على الموقف العالمي المتخاذل، والدخول في حالةٍ من الفصام- الشيزوفرينيا في العلاقة مع تركيا، فمن جهة تبقى الدولة الوحيدة التي تحاول مقارعة الروس والإيرانيين، والوصول إلى أفضل حلول للمعارضة، من ذلك ضمانة خروج المدنيين من حلب، وهي التي تستقبل النشاط السياسي للمعارضين السياسيين. ومن جهةٍ أخرى، فقد تخلّى الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، عن حلب، وعلى الأغلب، عقد تفاهمات جنتلمان مع الأميركيين والروس، في عملية إعادة هيكلة دور بلاده في تلك المناطق.
لكن المعارضة نفسها تدرك جيداً أنّها لا تستطيع أن تحمّل أردوغان المسؤولية، وهو قد دفع ثمناً كبيراً لموقفه من الثورة السورية في البداية، وأصبح معزولاً ومحاصراً إقليمياً ودولياً، وشكّلت له المحاولة الانقلابية الفاشلة صدمةً سياسية عنيفة، قرّر بعدها القيام بعملية "الاستدارة المؤجّلة" (وأقول مؤجلة هنا، لأنّ أوساط حزب العدالة والتنمية كانت تتحدث عنها سابقاً، منذ عام تقريباً، بعدما وصلوا إلى قناعة بانسداد الأفق السوري)!
في ضوء هذه المتغيرات والمعطيات؛ "ما العمل"؟ هل انتهت الثورة السورية عملياً، بين انتصار النظام وتحالفه مع الروس والإيرانيين من جهة وتشرذم المعارضة المسلحة وضياع هويتها وفقدانها البوصلة من جهةٍ ثانية؟ الجواب على هذا السؤال هو الذي من المفترض أن يأخذ اهتمام المثقفين والسياسيين المعارضين الوطنيين في المرحلة المقبلة. لكن، من الضروري قبل الإجابة عليه التمييز بين المسارات التي كانت اختياريةً للمعارضة، والاضطرارية، حتى لا تتحمل عملية "النقد الذاتي" المطلوبة، ومراجعة الأخطاء المرتكبة إلى حالةٍ عدميةٍ من "جلد الذات" والإحباط. فهنالك أخطاء ارتُكبت ذلك صحيح، لكّن المسار العسكري لم يكن خياراً عقلانياً واعياً، بقدر ما كان نتيجة الضغوط الشديدة من النظام على المواطنين، وتدحرج من عمليات انشقاق داخل الجيش، وصولاً إلى تشكيل الجيش الحرّ، وبروز الفصائل المقاتلة، ونمو السلفية الجهادية، بدفع من النظام الذي سعى إلى توفير الظروف المناسبة لها، ودخول الدول الإقليمية على الخط، بأجنداتها المتناقضة والمتضاربة، ما انعكس على البنية الداخلية للمعارضة المسلّحة، وعلى تركيبة المعارضة السياسية نفسها، ثم برزت الفجوة الواضحة بين المعارضتين السياسية والعسكرية الداخلية.
عاد عبد الباسط الساروت، أخيراً، إلى إدلب (بعدما اختفى فترة طويلة منذ خروجه من حمص، ويعتقد أنّه كان في تركيا، وقيل إنّه بايع "داعش") ليطلق أهازيجه التي صنعت روح الثورة، في البداية، وعكست قيمها، كما كانت أغاني إبراهيم قاشوش (يالله ارحل يا بشار)، وقصائد واثق الصمادي (معليش درعا)، وأغاني سميح شقير (يا حيف).
لم تنته القصة، وما حدث في حلب قد يكون نقطة تحوّل معاكسة، في حال أدت المراجعات السورية إلى إعادة تأسيس الخطاب السياسي، بالاستفادة مما حدث، وتم تجديد القيادة السياسية، وإعادة بناء قدرتها على التوصل مع الشعب السوري المنكوب.
عشرة ملايين مهجّرون ونازحون، في الداخل والخارج، ومئات الآلاف من القتلى، وتطهير طائفي في حلب وحمص، مدن مُسحت عن وجه الأرض، وشبه احتلال إيراني وهيمنة روسية، وصراع طائفي إقليمي، ليست تلك مؤشرات استقرار سياسي لصالح النظام وحلفائه، ولا نهاية الأزمة، بل ديناميكية جديدة لها، فالوقت لم يفت على المعارضة، لتستفيد من الدروس الهائلة من المرحلة السابقة.
محمد أبو رمان