تخيّلوا المشهد... غرفة صغيرة، مظلمة يجلس فيها العسكريون المخطوفون لدى «داعش»، متألمين لما يتردد حول قتلهم ووضع جثثهم في مغارة، ومن اللعب بمشاعر ذويهم الذين يكفيهم ما حصل حتى الآن. وانظروا إلى المشهد الواقعي: أهالي العسكريين في خيمة، ولا كلام يعبّر عمّا أصابهم، أو يصف الحال الذي انحدروا إليه. ما بين المشهدين سؤال: هل هناك ما يثبت أن جثث المغارة تعود إلى العسكريين، لا بل من يستطيع أن يثبت ذلك؟ما يُقارب سنتين و4 أشهر عاشها أهالي العسكريين المخطوفين لدى «داعش» بخوف على مصير أبنائهم. فترة طويلة لم تكن كفيلة بطَي هذا الملف، لتأتي الأيام القليلة الماضية وتكون الأكثر قساوة عليهم بعدما بدأت الأقاويل تنتشر حول العثور على 8 جثث بلباس الإعدام الداعشي داخل مغارة في بلدة قارّة في جبال القلمون السورية، إحدى الجثث مقطوعة الرأس، فيما سائر الجثث مصابة برصاصة في مؤخرة الرأس.
عملية عسكرية؟
أخبار كثيرة انتشرت أخيراً في الإعلام، أُطلقت فيها رصاصات الموت على العسكريين قبل التأكد من حقيقة ما حصل، ويكشف مصدر مطّلع على الأحداث في فترة الـ2014 أنّ «الجيش، ومنذ اليوم الذي أُسر فيه العسكريون، أخذ كل الإجراءات اللازمة وفتح العديد من خطوط التواصل مع أطراف داخلية وخارجية لتحريرهم مهما كان الثمن، حتى أنه درس تنفيذ عملية عسكرية لإنقاذهم في حال حُدّد مكانهم، وكان مستعداً لاستعمال الأسماء البارزة التي أوقفها في عملياته النوعية كورقة ضغط لإطلاق العسكريين».
ويتابع: «آخر المحاولات كانت منذ أشهر، عرض خلالها أحد الموقوفين المهمين أو الأساسيين في السجون اللبنانية، الاتصال بقيادة «داعش»، إذ إنّ أحد أقربائه مسؤول كبير في التنظيم في الرقّة، للتفاوض في ملف العسكريين بهدف تسهيل ملفه قبل إحالته الى المحكمة، علماً أنّ اسمه غير مرتبط بقضايا أمنية بل في هجوم على الجيش، وهذا ما حصل، إذ تمّ الاتصال عن طريق طرف لبناني».
ويوضح المصدر أنّ «هناك احتمالين للنتيجة التي وصل إليها الاتصال: أنّ «داعش» لم يعد مهتماً بإسم الموقوف، أو أنّ هذا الأخير يراوغ، لأنه في إحدى المرات تراجع، وفي أخرى أتاه الجواب «انشالله خير»، وفي كل مرة كانت قيادة الجيش تصرّ على أنّ المطلوب قبل الدخول في أي مفاوضات جدية، التأكد من وجود العسكريين لدى «داعش» إمّا عبر إرسال فيلم قصير لهم أو صوَر أو بعض المتعلقات الخاصة فيهم، إضافة الى التأكيد على ما إذا ما كانوا أحياء أو شهداء».
«الذهاب للآخر»
وتشير المعلومات الى أنه بعد هذه المرحلة التي طالت مدتها، وبعد تراجعه مرات عدة، وعلى رغم الصبر في التعاطي معه، والمحاولة في «الذهاب للآخر» في هذه المبادرة على مستوى عال وإعطاء التسهيلات لإنجاحها، جاءت محاولة أخرى عن طريق فريق آخر لم تصل بدورها الى ما هو مَرجو، كما أنّ ما عقّد المفاوضات هو العمليات العسكرية ضد «داعش» في العراق وسوريا والتي أحرجته، فيما كان هَمّ الفريق اللبناني يوم قرّر السير بهذه المبادرات التركيز على أنّ هناك ضربة آتية، ويجب الإستفادة آنذاك من الفرصة أكثر من لاحقاً، أي اليوم.
ويقول المصدر ان «لا شيء يؤكد أنّ العسكريين اللبنانيين موجودون في الجرود، ولا أدلّة تشير الى أنهم نقلوا الى الرقة كما حاول «داعش» أن يشيع، على رغم أنّ مصادر إسلامية أخرى تقول إنّ المكلّف في التفاوض بالموضوع كان أمير «داعش» في القلمون التابع لولاية الشام ولكنه المسؤول عن ملف الأسرى بالتعاون مع الرقة، ولذلك كان المفاوض اللبناني يُقابله، وحصلت مفاوضات مباشرة من وسيط ذهب الى مركز أبو السوس مرة أو مرتين، إلا أنها لم تُثمر ولم يأخذ منه معلومات عن العسكريين».
وحول ما يُثار حالياً عن اكتشاف جثث تعود للعسكريين، يؤكد المصدر أنّ «علامات استفهام عديدة تطرح حول كل ما كُتب في هذا الملف أخيراً والتسريبات التي نُشرت، أوّلها هي محاولات، على ما يبدو، لاستثمار ملف الأسرى في الموضوع السياسي، مثلما استُعمل سابقاً بغية التعرّض لقيادة الجيش، فها هو يُستخدم عشيّة تشكيل الحكومة لتوجيه ضربة لرئيس الجمهورية، القائد الأعلى للقوات المسلحة، والمُطّلع بدقة على الملف، ولجهود الرئيس المكلف تأليف الحكومة».
«نقاط استغراب»
في هذا الإطار، يطرح المصدر مجموعة أسئلة: «أولها كيف استطاع اثنان من آل جعفر الوصول الى منطقة قارّة، والاشتباه في أنّ تواجدهما هناك لم يكن في هدف الصيد كما أشيع إنما بهدف إعداد عملية تهريب تجري هناك ومن خلالها اكُتشفت المغارة التي وجدوا الجثث داخلها؟
ثانياً، ما تردد بحسب ما أراد البعض نَشره هو أنّ تاريخ وفاة الجثث يعود الى 6 أشهر، ومن المعروف أنّ هذه المنطقة لم تشهد تواجداً لـ«داعش» ولم تشهد اشتباكات في هذه الفترة، بل انه انسحب منها، وبالتالي لا يمكن له أن يعدمهم ويضعهم في المغارة».
ويبقى السؤال الأبرز: لماذا أعدم «داعش» العسكريين من دون التفاوض عليهم أو على جثثهم أو على أفلام تعود إليهم وحققوا المكاسب من خلالها؟ علماً أنه في الفترة الأخيرة حصد الجيش مجموعة أسماء مهمة لـ«داعش»، وكان بإمكان الأخير الاستفادة من «ورقة» العسكريين للضغط على الجانب اللبناني. كما أنه لم يكن في الجرود أيّ عمليات عسكرية أو أخرى لطرد «داعش» من المنطقة.
واللافت أنّ الجثث كانت ترتدي لباس الإعدام الأزرق الذي يعتمده «داعش»، فيما يبرز في الإعدامات السابقة للعسكريين أنهم كانوا يُعدمون في ثيابهم. والجدير بالذكر، بحسب المصدر العسكري، أنّ أي قوة للجيش لم تدخل الى المغارة المذكورة.
وخلافاً لما سُرّب، لم يعط الموقوف القيادي في «داعش» أحمد أمون حتى اليوم أيّ معلومة يؤكد فيها مكان وجود العسكريين، والجيش أكّد هذه المعلومة في بيان رسمي، فالتحقيق معه لم يعط نتيجة في هذا المجال.
كما أنه لا وجود لأيّ جثث في المستشفى العسكري مرتبطة بهذا الملف، والجيش لم يأخذ أيّ عيّنات من الحمض النووي لفحصها ولا علاقة له بكل ما يحصل الآن، فالموضوع مرتبط بالمديرية العامة للأمن العام التي استدعت عائلة أحد العسكريين وأطلعتها على أمر لم يعرف ما هو، والعائلة متكتّمة على الموضوع على رغم أنه عرف أنّ 4 جثث من التي سلّم الطرف السوري حمضها النووي لم تتطابق مع الحمض النووي المأخوذ من العائلات اللبنانية.
وفي هذا الإطار يؤكد المصدر العسكري أنّ «هدف قيادة الجيش كان منذ اليوم الأول استعادة العسكريين، ولا تقبل أيّ مزايدة عليها في هذا المجال. وصمتها هو لعدم المسّ بمعنويات المؤسسة والأسرى والعائلات التي لا يمكن التلاعب بمشاعرها.
لذلك، يعود الجيش ويؤكد أنه لن ينشر أي معلومة أو يدخل في سجال أو يرد على ما يُردد لأنه مسؤول عن كل ما ينشر باسمه، وهو لا يدّخِر أيّ مجهود لإطلاق الأسرى ولا يقبل أن يكون مصيرهم عرضة لأي مقايضة، ويقوم بجهده لاستعادتهم أحياء أو شهداء، وحينما يقف على الإجابة سيُطلع الأهالي عليها بكل شفافية».
«النهاية»
وتشير المعلومات أنه خلال المفاوضات على مراحل متعددة تبيّن أنّ هناك تضارباً في قيادة «داعش»، فلا جهة محددة تقوم بالتفاوض، فتارة يزعمون أنهم سيكلفون لجنة للاتصال بأبو بكر البغدادي ليعطي الأوامر المناسبة للتصرف، وتارة أخرى يقولون إنّ أبو السوس في القلمون هو المسؤول عن التفاوض، وتارة ثالثة يقولون إنّ الأخير أقيل لأنه خائن. ففي كل مرة كان هناك تضارب من ناحية المرجعية.
إذاً حقق «داعش» جزءاً ممّا أراده في هذا الملف بمساعدة بعض وسائل الإعلام من دون أن تدري، والكلام هنا للمصدر العسكري، فهي لم تتعامل مع هذا الملف بمناقبية ومهنية على رغم ارتباطه بمشاعر عائلات العسكريين الذي يفرض على الجميع الوقوف الى جانبهم وعدم التعامل مع الملف من باب السبق الإعلامي لأنه يعرّض المفاوضات للخطر أولاً، وثانياً يسبّب ضرراً معنوياً على الأهالي، ويساهم في تقديم «ورقة» مجانية يضغط بها الإرهابيون على أعصاب الأهالي، كما حصل في السابق.
ربى منذر | الجمهورية