ما بين الإنسان وقلبه مسافة، وما بين وما بين الدمعة والرحمة والعقل مسافة، صدقوني إن قلت منذ أن إلتحق أنبياء الرحمة وأولياء الرأفة بالرفيق الأعلى وإلى يومنا هذا لم أفهم معنى الرحمة وما هو المقصود منها، ما خلا معناها اللغوي، بل حتى هذا قد لا ينطبق بأي حالٍ من الأحوال على كثير من قوافل اللحى الملتحية بلحية الجاهلية الأولى، لأن معناها اللغوي مشتقٌ من (رحم) وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على القرابة والعطف والعفو والرأفة، حتى النص القرآني وصف المؤمنين بالإخوة، يعني الدين نسب وقرابة وتراحم..
بالله عليكم ما يجري اليوم في عالمنا العربي والإسلامي من العراق واليمن وسوريا وتحديداً حلب الشهباء المنكوبة، لأنني لا أعرف ولا أعرف مخلوقاً على وجه الأرض يستطيع أن يملك نفسه ودموعه وحزنه وألمه أمام هول قتل الأبرياء والأطفال والجوعى والمشردين غير هذا الإنسان، فما باله لا يشبع من الدم، حتى أن أكثر الحيوانات وحشية لهي أرحم من هذا الإنسان، لأنه لو ألمَّ هذا الوحش بسريرة مشرَّدٍ ومعذَّبٍ ومضطهدٍ ومهجَّرٍ لربما رثى لحالهم ولربما حنَّا عليهم، فماذا يُخبئ لهم القدر، ألم يرهم أحد في طريقه ليرى صفرة وجوه الأطفال وترقرق مدامع النساء وذبول أجسام العجزة، ليعلم أنهم مظلومون فيرحمهم، ألم يكن لهم جارٌ ولو من بعيدٍ ليسمع أنينهم في جوف الليل ويرى رحلهم وترحالهم ورواحهم، وحائرون ملتاعون في طلب العون والمأوى والقوت، ليكفيهم أمرهم..
تعلمت في الشريعة بأن موارد الإحتياط ثلاثة، ولعله إجماع المسلمين (المال والعرض والدم) لعلَّ الذي يجرى ليس دماً،بل هو ماء وردٍ، وربما يكون دماً كذباً مثل دم قميص يوسف، لم يرم الفرعون يوسف في البئر، وإنما رماه إخوته ،دم أبيهم ولحم أماتهم المتوزِّع في جمال صدقه، أو لعلَّ الذي يحترق ليس مالاً لأنه جمع من حرامٍ، ولعلَّ الذي يُدمَّر ليست بيوتاً بل هي كثبان رملٍ في صحراء، ولعلَّ الذي يُباع ويَبتاع سراً وعلانية وبأثمانٍ بخسة، هي ليست عرضاً بل هي عبدة مملوكة، دلوني على موارد الرحمة، فكل ما يخطر على البال من قيمٍ وطوبويات وأخلاق ومُثُل عليا،فهي موجودة على ورق من سعف النخيل، وليست موجودة على الأرض والواقع،فها هم اليوم الفقراء والمشردين والأطفال يموتون جوعاً وظلماً بين تلال الرمال وفوق سعاف التلال والجبال والشوارع من حيث لا راحم ولا معين،فالويل الويل للنخَّاسين الأتقياء منهم والفسقة، أو من هو متهم بالدين والتقوى، ومن هو متهم بالفسق والفجور،إنها مفاهيم مقلوبة كمأذنة مسجدٍ مقلوبة، ومعايير مختلة، حتى أصبح جميعنا ملزمين مطواعين أن نعيش بأكثر من لونٍ ولسانٍ، وربما ملزمين أيضاً أن نعيش النفاق طائعين ونحن نؤدي صلاة الصباح والمساء، سأترك هذه العناوين الفضفاضة والقيم الملتوية والمقلوبة كقانون مغيطٍ، بل وحتى المستقيمة منها، فما أعظم من جريمة أمة الإسلام التي لا يموت فيها ظلماً وعدواناً وجوعاً وقهراً سوى نساءٍ وأطفالٍ وشرفاء...