مع أنّ كثيرين يعزون اندراج «حركة المقاومة الإسلامية ــ حماس»، في الحملة الإخوانية على استعادة مدينة حلب السورية، إلى ضغوط إقليمية أجبرتها على اتخاذ بعض الإجراءات، فإن ذلك لا ينفي أن ما يحدث تعبير عن جزء أصيل من القرار الإخواني المنخرط في هذه المعركة، وهو غير بعيد عن التنظير السلفي أولاً، ومعاداة الدولة السورية وحلفائها ثانياً، علماً أن هذا لا ينفي بالتأكيد موقع الحركة في المقاومة ودورها وتاريخها.

ورغم أن «حماس» ظلت تؤكد في كل بياناتها لازِمَة أنها لا تتدخل في شؤون الدول العربية الداخلية، فإن كل مناسبة حركيّة تحفل بمظاهر تشي بعكس ذلك، وكذلك الأمر في البيانات الصادرة عن الحركة، التي وصلت في مفارقاتها حدّ التناقض داخل البيان نفسه، بين تقديم موقف في بداية البيان من حدث عربي، ثم التشديد في نهايته على مبدأ «عدم التدخل».
كذلك، للمرة الأولى بصورة بارزة، يصدر عن «حركة الجهاد الإسلامي» موقف مغاير لحيادها المعتاد، إذ نقل موقع «شمس نيوز» المقرب من الحركة، عن عضو المكتب السياسي فيها محمد الهندي، الموجود في تركيا حالياً، قوله إن «حقوق الإنسان والقانون الدولي يلفظ أنفاسه في حلب... كل الأكاذيب والترهات التي يتشدق بها الظلمة وأبواقهم تتساقط على مشارف حلب».
أول من أمس، في مهرجان انطلاقة الحركة الـ29، الذي أقامته وسط مدينة غزة، رفع المشاركون أصابع السبابة وأطلقوا هتافات ضد معركة استعادة حلب من المسلّحين، فيما قال القيادي في «حماس» وعضو المكتب السياسي خليل الحيّة، إنه «لا يمكن السكوت عما يجري في حلب، ولا يمكن السكوت عن قتل أطفال ونساء ورجال المسلمين السنة في حلب، فلا يمكن للظالم أن يستمر في ظلمه».

مع أن هذا الموقف يأتي بعد صمت نسبي لـ«حماس» في التعليق على الأحداث في سوريا، فإنه كان متناسقاً مع البيان الرسمي للحركة الذي سبق ذكرى الانطلاقة بيوم، وجاء فيه أنها تستهجن «ما يجري في مدينة حلب وما يتعرض له أهلها من مجازر وعمليات قتل وإبادة تقشعّر لها الأبدان ويندى لها الجبين». وقبلها بأيام كان حديث رئيس مكتبها السياسي خالد مشعل، في حوار من العاصمة القطرية في الدوحة، قال فيه إن ما يحدث في حلب «يقطع أكبادنا».
رغم كل هذه الإعلانات التي تبقى في إطار التموضع السياسي والتعبير عن الموقف، وهو حقّ مكفول لكل الأطراف بغض النظر عن قربه من الواقع أو بعده، فإنّ المشكلة أن الأجهزة الأمنية التابعة لحكومة «حماس» في غزة، وخاصة «الأمن الداخلي»، ذهبت بعيداً بشن عمليات اعتقال خلال اليومين الماضيين طاولت كثراً، كما أرسلت بلاغات لآخرين من أجل الحضور إلى مقار «الداخلي» المنتشرة في القطاع.
كالعادة، انتشر بين الجمهور الغزيّ، وخاصة في القاعدة الجماهيرية الحمساوية وكذلك مناصري التيار السلفي، أن هذه الحملة تطاول «أصحاب الفكر الشيعي والمتشيعين»، لكنها عملياً كانت بحق كل من كتب أي موقف سياسي مغاير لموقف الحركة من تطورات حلب. وترافقت تلك الحملة مع اقتحام منزل عائلة الأمين العام لحركة «الصابرين»، هشام سالم، بغية إلقاء القبض عليه، فيما عملت القوة المقتحمة على تفتيش المنزل بعدما لم تجده ومصادرة الحواسيب والأجهزة النقالة.
ويوم أمس، اعتقل الأمن في غزة مراسل صحيفة «الأخبار»، الزميل يوسف فارس، على خلفية آرائه عبر صفحته على «فايسبوك»، رغم أنه تلقى وعوداً بحلّ قضية الاستدعاء قبلها بليلة واحدة، ولكن الأمن اعترض سيارته أمام المدرسة التي يعمل فيها، واعتقله من بين تلاميذه، كما اقتحم شقته وصادر حاسوبه وهاتفه النقال، قبل أن يفرج عنه بعد ساعات.
والمشكلة أن الاعتقالات رافقتها حملة طاولت غالبية المعتقلين عبر وصمهم بأنهم «متشيعون»، رغم أن بعضهم من الصحافيين والكتاب الذين لا يمتون للفكر الإسلامي بصلة، وهو ما قد يجعلهم اليوم، كما حدث مع آخرين قبلهم، لقمة سائغة لدى سلفيين جهاديين يقدمون على استهدافهم، وهي حالة واقعة فعلاً بعد اعتقال «حماس» عدداً من الأشخاص بهذه الآلية.
في غضون ذلك، حاولت «الأخبار» التواصل مع غالبية الفصائل الفلسطينية في غزة، كـ«الجهاد الإسلامي» و«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» و«حزب الشعب»، لكنهم اعتذروا جميعاً عن عدم التعليق، لأنهم «لا يمتلكون الصورة الشاملة لما يجري في القطاع»، فيما رأى بعضهم «أن التداول في هذا الموضوع إعلامياً يضر ولا ينفع».
أما عن قانونية هذه الاعتقالات وطريقتها، فقال المتحدث باسم الشرطة في غزة، إنهم جهة غير مخوّلة التعليق على هذا الموضوع، لأن ما حدث هو شأن جهاز «الأمن الداخلي». حتى إن عدداً من الحقوقيين امتنعوا عن التعليق، قائلين إنه لا كفاية في المعلومات لديهم بهذا الشأن، لكن بعضهم علّق مع اشتراط ألا تذكر أسماؤهم في التقرير، بأنه «إذا ما كانت الاعتقالات على خلفية الآراء السياسية أو حتى اعتناق الفكر الشيعي، فهي غير قانونية بكل تأكيد»، فيما رأى بعضهم أنه «اذا كان التعبير عن الرأي بشأن حلب يحض على التعصب والكراهية، يسهل على حكومة حماس صياغة اتهام قانوني... لكن هذا الأمر يجب أن يطاول أيضاً المحرضين على أي طرف».
في المقابل، أصدرت «نقابة الصحافيين الفلسطينيين» بياناً استنكرت فيه «اعتقال أمن حماس للزميل الصحافي يوسف فارس واستدعاء الصحافي هاني أبو رزق... وتعد إجراءات ملاحقة الصحافيين انتهاكا لحرية الرأي والتعبير، وتحد من حرية العمل الصحافي». لكنّ مدير «مكتب الإعلام الحكومي» في غزة، سلامة معروف، قال لـ«الأخبار»، إنه لم يكن لديهم علم بأن فارس هو مراسل «الأخبار» ــ رغم وجود كتاب رسمي منذ سنتين باعتماده مراسلاً للصحيفة ــ وإنه لا يوجد مكتب معتمد للصحيفة في غزة، مضيفاً (عن طريقة الاعتقال): «لم يكن حاضراً، على ما يبدو، في ذهن الأمن أنه صحافي»، ومؤكداً أنه عمل على حل المسألة فور معرفته بها. وعاد معروف وشدد على أن فارس «ليس في موضع اتهام»، رغم كشف محتويات حاسوبه وهاتفه.
رغم محاولة التواصل مع أكثر من مصدر قيادي في «حماس» ورفض غالبيتهم الردّ، قبِل أحدهم التحدث، قائلاً إن هذه الاعتقالات «تأتي كرد فعل عاطفي بحت، وللقول إن حماس كما تحارب الفكر السلفي المتعصب، فهي تحارب الفكر المتشيع كذلك»، علماً أنّ حملة الاعتقالات والاستجوابات مرتبطة بموقف سياسي حصراً.
مع هذا، سجّل المصدر نفسه اعتراضاً على طريقة الاعتقالات وتصدير الأمر كحملة، خاصة أن بعض من كتبوا «لم يصل الأمر بهم إلى تهديد الأمن المجتمعي أو تشكيل خطر على حياة الأبرياء... من الخطأ اتخاذ إجراءات قد تكون غير قانونية ضمن رد فعل عاطفي»، مضيفاً: «عمليات اعتقال دون الاستناد إلى مسوغ قانوني واضح للرأي العام ستنتهي بالإفراج عنهم بسرعة، كما أنهم سيخرجون كأبطال لا متهمين».
إلى ذلك، علمت «الأخبار» من مصدر آخر أن «رابطة علماء المسلمين» في غزة، المقربة من «حماس»، ألغت مؤتمراً كان مقرراً أمس، وذلك للحديث عن «المجازر في حلب»، بعد ضغوط كبيرة من قادة في الحركة.

 

هاني إبراهيم