اكتملت إبادة حلب أمس، بمشهد «النكبة العربية الجديدة» لآلاف الناس المتجمعين بانتظار الصعود في حافلات تقلهم خارج أحيائهم ومنازلهم، مخلفين وراءهم أحبة أمواتاً وحاملين مع متاعهم الكثير من ذكريات العذاب والصمود، وهم الذين بقوا أحياء بعد شهر من أشرس وأبغض حملة عسكرية ضدهم، شنها «ديكتاتور الشام»، المتوهم أن كرسي السلطة سيدوم له على أجساد شعب تاق للحرية والحياة فحفظ لنفسه مكاناً متقدماً بين أبشع الجزارين الذين عرفهم التاريخ، بمساعدة من إيران الطامحة لإحلال خارطتها المذهبية فوق الجغرافيا العربية.

ثلاثون يوماً من القرن الحادي والعشرين ستُذكر طويلاً في الحكايات والأساطير، عندما شن النظام السوري وحلفاؤه أشرس حملة عسكرية تدميرية ضد مدينة مأهولة بالسكان، مُرتكبة أفظع جرائم الإبادة الجماعية بحق الآلاف من أهالي حلب، وساندتها في ذلك ميليشيات إيرانية زاد تطرفها لحظةَ استفرادها بالمدنيين، فأعدمت ميدانياً مجموعات بشرية بأكملها.

آلاف الشهداء وآلاف المعتقلين وألوف مؤلفة من المختفين والمغيبين، هي الفاتورة الأولية لما وصفه الأسد وطهران بالانتصار على الإرهاب في حلب، أضيف اليهم أمس عشرات الآلاف الذين اقتلعوا من أرضهم.

واحتشد آلاف الأشخاص منذ الصباح في منطقة تجمع المغادرين في العامرية في شرق حلب، ينتظرون دورهم لمغادرة مدينتهم. وكتب أحدهم بالغبار على إحدى الحافلات «سنعود يوماً«.

وبعد يوم طويل من المعاناة، خرجت القوافل من حي العامرية في المدينة، حيث تجمع المقاتلون والمدنيون بانتظار نقلهم، باتجاه منطقة الراموسة عند أطراف حلب الجنوبية ومنها الى ريف حلب الغربي.

وتمكنت أمس دفعتان من الجرحى والمدنيين ومقاتلي حلب من الذين تم إجلاؤهم من شرق حلب، من الوصول إلى مناطق سيطرة الفصائل المعارضة في ريف المدينة الغربي، وفق ما أفاد طبيب في المكان والمرصد السوري لحقوق الإنسان، وذلك على الرغم من العراقيل التي وضعتها الميليشيات الإيرانية وقوات الأسد منعاً لوصولهم.

نهاراً، وصلت الدفعة الأولى من الجرحى وعائلاتهم إلى ريف حلب الغربي بعد نقلهم عبر سيارات إسعاف وحافلات بإشراف الهلال والصليب الأحمر، من أحياء حلب المحاصرة، على الرغم من العراقيل التي وضعتها الميليشيات الإيرانية منعاً لوصولهم، في حين أرسلت تركيا سيارات إسعاف إلى الحدود السورية تحسباً لوجود حالات حرجة بين الجرحى الذين يتم إخلاؤهم من شرق حلب بموجب اتفاق وقف إطلاق النار.

وسارت الحافلات حوالى 6 كيلومترات في مناطق سيطرة النظام حتى وصلت الى مناطق سيطرة المعارضة، ونقلت نحو 1150 شخصاً بينهم 50 جريحاً نقلتهم سيارات الإسعاف من أحياء حلب المحاصرة ضمن المرحلة الأولى من عملية إجلاء الجرحى، فيما تولت سيارات الإسعاف الموجودة في المنطقة استقبال الجرحى ونقلهم إلى مراكز طبية في إدلب والحدود السورية التركية.

وحاولت الميليشيات التابعة للنظام والتي تُشرف على الحواجز المحيطة بمنطقة الراموسة عرقلة القافلة التي يفصلها كيلومترٍ واحدٍ عن مناطق سيطرة الثوار، فيما كان الطيران الحربي يحلق في أجواء ضاحية الراشدين حيث تتجمع حشود لاستقبال المهجّرين.

وصلت الدفعة الثانية من مقاتلي ومدنيي شرق حلب في المساء، الى مناطق سيطرة الفصائل المعارضة في ريف المدينة الغربي، وفق ما أفاد طبيب في المكان والمرصد السوري لحقوق الإنسان.

وقال مدير المرصد السوري رامي عبد الرحمن «وصلت الدفعة الثانية من المحاصرين في مربع سيطرة الفصائل الى ريف حلب الغربي«.

وأكد أحمد الدبيس، المسؤول عن وحدة من الأطباء والمتطوعين التي تنسق عمليات الإجلاء والموجود في بلدة خان العسل في الريف الغربي: «وصلت القافلة، ويتم نقل الجرحى الى سيارات إسعاف تقلهم الى المستشفيات وإخراج المدنيين من الحافلات». وأشار الى تلقي الوحدة اتصالاً قبل وصول القافلة «لتجهيز عشر سيارات للإسعاف الطارئ، كون هناك عشر حالات حرجة تم وضعها على أجهزة تنفس«.

وفي خان العسل في ريف حلب الغربي حيث جرى استقبال قافلة الخارجين، شاهد مراسل لوكالة فرانس برس جرحى إصابتهم حديثة وخطيرة، ما دفع الكثيرين ممن كانوا في استقبالهم الى البكاء. وتمثلت أكثر اللحظات المؤثرة في رؤية أشخاص من حلب كانوا عالقين خارج المدينة بسبب الحصار وهم يلتقون أقرباءهم بعد طول انتظار. وكرر كثيرون عبارة «عائدون» من دون أن يتوقفوا عن البكاء.

مدير عمليات الصليب الأحمر في الشرق الأدنى والشرق الأوسط روبرت مارديني تحدث عن خروج نحو ألف مدني و26 مصاباً بينهم العديد من الأطفال تم إجلاؤهم من شرق حلب، متوقعاً أن تسفر عمليات الإجلاء عن ضعف العدد في نهاية يوم أمس.

وقال أحد قادة فصائل الثوار إن ميليشيات «حزب الله» وقوات الأسد حاولت عرقلة وصول سيارات الإسعاف عبر الحواجز الموجودة في الطريق، ما تسبب بتأخير وصول القوافل إلى منطقة الراشدين.

وأكد مسؤول في منظومة الإسعاف في حلب أن ميليشيات إيران فتحت النار على سيارات إسعاف عدة أثناء خروجها من المدينة، ما تسبب باستشهاد مدني وإصابة 3 بينهم عنصر من الدفاع المدني، الأمر الذي أدى إلى تعطيل العملية وعودة القافلة إلى حي السكري شرقي حلب.

وكانت روسيا قد أعلنت أن جنودها سيرافقون قوافل الثوار الخارجين من المدينة، وتحدث رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية الجنرال فاليري غيراسيموف عن فتح ممر إنساني لإخراج المسلحين، طوله 21 كيلومتراً. وأوضح، خلال إيجاز صحافي للملحقين العسكريين الأجانب المعتمدين في موسكو، بعد ظهر أمس، أن الحافلات التي تقل المسلحين، ستقطع مسافة 6 كيلومترات داخل حلب، ومن ثم مسافة 15 كيلومتراً بالاتجاه الغربي عبر مناطق خاضعة لسيطرة ما أسماها «التشكيلات المسلحة«.

وقدّر مستشار المبعوث الأممي لسوريا، يان إيغلاند، خلال مؤتمر صحافي أمس، في جنيف أن عدد الذين سيخرجون من الأحياء المحاصرة في حلب يتجاوز 50 ألف شخص، ستكون وجهتهم محافظة إدلب، مشيراً إلى أن من تبقوا في حلب اختاروا أن يتوجهوا إلى مناطق سيطرة الثوار، ومشدداً على أن «أول وأهم شيء هو إجلاء الجرحى والمرضى والأطفال ومنهم الأيتام«.

وأعلن الموفد الأممي الى سوريا ستافان دي ميستورا أن نحو 50 ألف شخص معظمهم مدنيون لا يزالون محاصرين في شرق حلب، مطالباً بإجراء مفاوضات لئلا تتحول مدينة إدلب التي سيلجأ اليها المقاتلون وعائلاتهم الى «حلب أخرى«.

وقال دي ميستورا إثر محادثات أجراها مع وزير الخارجية الفرنسي جان مارك آيرولت في باريس «هناك 50 ألف شخص، بينهم 40 ألف مدني، يقيمون ويا للأسف في هذا القسم من المدينة. الآخرون مقاتلون، بين 1500 وخمسة آلاف إضافة الى عائلاتهم». وأضاف أن «المدنيين الأربعين ألفاً سيغادرون الى غرب حلب (الذي يسيطر عليه النظام). ينبغي أن تكون الأمم المتحدة حاضرة حين يصلون للتأكد من حسن استقبالهم«.

وتابع «أولويتنا أن يكون زملاؤنا في الأمم المتحدة موجودين مع السكان وأن يتم احترام المقاتلين«.

وأوضح أن المقاتلين وعائلاتهم سيتوجهون الى مدينة إدلب في شمال غرب سوريا والتي لا تزال المعارضة تسيطر عليها بموجب اتفاق تم التوصل اليه برعاية روسيا وتركيا. وقال أيضاً «لا نعلم ماذا سيحصل في إدلب. إذا لم يكن هناك اتفاق سياسي، (اتفاق) لوقف إطلاق النار، فإن إدلب ستصبح حلب أخرى«.

ودعا آيرولت الى «نشر مراقبين للأمم المتحدة في أسرع وقت، من كل طواقم الأمم المتحدة الموجودة أصلاً على الأرض والتي تستطيع الانتشار خلال الساعات المقبلة». وأضاف «ندعو الى وقف العمليات القتالية في كل المناطق واستئناف المفاوضات«.

وكان الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند ندد أمس، بموقف روسيا التي «تقطع تعهدات ولا تفي بها» في ما يتعلق بحلب، وقال لصحافيين لدى وصوله الى بروكسل للمشاركة في قمة أوروبية، «في وقت من الأوقات، تصبح المساءلة على الأفعال أمراً محتماً«، مشدداً على أن «أوروبا يجب أن ترفع صوتها».

وأضاف «روسيا تقطع تعهدات ولا تفي بها»، مضيفاً «إذا لم تُبذل الجهود فإن الأنظمة التي تدعم بشار الأسد ستتحمل مسؤولية الوضع الخطير جداً« على السكان في حلب. وتابع: «لا يمكن أن نترك رجالاً ونساء وأطفالاً تحت القصف أو التجنيد القسري ويواجهون تهديداً لأمنهم ويعاملون بمثل هذه الطريقة غير اللائقة».

واعتبر هولاند أن الأمر الأكثر أهمية هو «إجلاء السكان بالذين لم يعد بإمكانهم تحمل القصف والمجازر والراغبين في مغادرة المنطقة بأمان». وأضاف «الأولوية الثانية هي التمكن من إيصال المساعدة الغذائية والأدوية الى السكان الراغبين في البقاء» والثالثة «حماية كل المؤسسات الطبية المحيطة بحلب».

وندد مجلس الجامعة العربية أمس، بما وصفه بالممارسات والعمليات العسكرية «الوحشية» التي تقوم بها قوات نظام الأسد وحلفاؤه ضد المدنين في حلب التي دمرتها الحرب، داعياً المجلس المجتمع الدولي في ختام اجتماع على مستوى المندوبين الدائمين في القاهرة إلى الضغط على دمشق لفتح ممرات إنسانية آمنة لإغاثة المدنيين في حلب.

المتحدث باسم الخارجية التركية حسين مفتي أوغلو، قال في مؤتمر صحافي في أنقرة إن الهدف الأول لعملية الإجلاء من شرق حلب هو إيصال المرضى والجرحى إلى المستشفيات سواء في سوريا أو تركيا. وأضاف أنه يجب إيواء هؤلاء في مخيمات سريعاً، مشيراً إلى أن العمل يجري لإقامة مخيمات في سوريا، ومحملاً قوات الأسد مسؤولية وفاة نحو 1000 مدني في الأسبوعين الأخيرين.

وأعرب المجلس في بيان «عن إدانته واستنكاره الشديدين للممارسات التي يقوم بها نظام الأسد وحلفاؤه من عمليات عسكرية وحشية ضد مدينة حلب وسكانها المدنيين وما تخلفه من مآسٍ إنسانية وتدمير للمدينة ومقدراتها وإرثها الحضاري والإنساني»، لافتاً إلى أن «ما يقوم به النظام السوري وحلفاؤه في حلب وغيرها من المدن السورية جرائم حرب وانتهاك صارخ للقانون الدولي والقانون الإنساني».

إلى ذلك، اعلن زير الدفاع البريطاني مايكل فالون أمس، ان بلاده لا ترى «مستقبلاً للأسد في سوريا» وذلك في ختام اجتماع للتحالف الدولي ضد تنظيم «داعش» ضم نحو 15 من نظرائه.

وقال فالون في مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الأميركي آشتون كارتر «حتى وإن انتصر على المعارضة في حلب، ليس هناك انتصار في قصف مستشفيات أو تقييد وصول المساعدة الإنسانية«. وأضاف فالون «على العكس نواصل التطلع الى تسوية سياسية في سوريا تكون تعددية» بالفعل.

بدوره، أيد كاتر تصريحات نظيره البريطاني قائلاً إن «الانتقال السياسي هو السبيل الوحيد لإنهاء معاناة الشعب السوري«، متهماً روسيا بدعم «وحشية لا تصدق» من خلال مساندتها هجوم الأسد على مقاتلي المعارضة في حلب.

ويعقد مجلس الأمن اجتماعاً عاجلاً اليوم بطلب من فرنسا لبحث الوضع الإنساني في مدينة حلب السورية، بحسب ديبلوماسيين. فيما أشار مندوب فرنسا فرنسوا ديلاتر الى مبادرة أوروبية لنشر مراقبين دوليين لمراقبة الوضع في حلب. وأضاف أن «فرنسا وألمانيا وشركاء أوروبيين آخرين، يعملون بشكل وثيق على مقترحات» هدفها «إجلاء (المدنيين) بشكل آمن ووصول المساعدات الإنسانية» الى حلب.

واعتبر ديلاتر أنه أصبح «أكثر أهمية من أي وقت مضى» التوصل الى نشر «مراقبين دوليين» تحت رعاية الأمم المتحدة للإشراف على عملية الإجلاء. وأشار، بدون تفاصيل، الى «تحرك للاتحاد الأوروبي دعماً لمراقبة الأمم المتحدة«.

وسيطلع سفراء الدول الـ15 في المجلس على آخر تطورات الوضع في حلب من مسؤول العمليات الإنسانية في الأمم المتحدة ستيفن أوبراين.

وبدأت أولى عمليات الإجلاء من الأحياء الشرقية في حلب أمس مع خروج موكب سيارات إسعاف وحافلات تقل 951 شخصاً بينهم أكثر من 200 مسلح و108 جرحى بحسب مصدر عسكري في المكان.