أما بالنسبة إلى لبنان فقد تصبح موسكو «صانعة الرؤساء» الجديدة، ما يدفع الموارنة الطامحين الى تقوية علاقاتهم معها.كانت إنتخابات عام 1952 الرئاسية بعد إستقالة الرئيس بشارة الخوري كفيلة بإنهاء الدور الفرنسي الأحادي في لبنان وتكريس الشراكة مع الإنكليز، أو بالأحرى تفوّق النفوذ البريطاني على الفرنسي في بلد كان يعتبر فرنسا «أمّه الحنون»، قبل أن يأتي العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ليعلن نهاية الدور الفرنسي والبريطاني ويُكرّس حكم الثنائية السوفياتية والأميركية للعالم، فيما تحوّل دور بقية الدول ثانوياً في نظام الثنائية القطبية العالميّة.
تغيّرت التوازنات العالمية وهُدم جدار برلين عام 1989 وحكمت أميركا العالم بمفردها بعد تفكّك الإتحاد السوفياتي، فيما انتهت مفاعيل الرسالة التي بعثها الملك الفرنسي لويس الرابع عشر الى البطريرك الماروني معلِناً تعهّده حماية الكنيسة المارونية وطائفتها، وذلك لأسباب عدّة أبرزها ضعف دور باريس العالمي وتأثيرها، إضافة الى تفلّت اللعبة السياسية اللبنانية من أيدي الموارنة.
وصلت اللعبة السياسية الى ما هي عليه اليوم، فانتُخب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، وشهدت الساحةُ المسيحية ارتياحاً الى الدور المتجدّد في هذه القضية خصوصاً أنّ الروس لاعبون مؤثرون في الشرق الأوسط، الى درجة أنّ تركيا التي أسقطت طائرة «السوخوي» الروسية عادت واعتذرت ورمّم رئيسها رجب طيب أردوغان العلاقات مع الرئيس فلاديمير بوتين، كما أنّ موسكو كانت محطة رئيسة وأساسية في تسويق الرئيس سعد الحريري لمبادرته الرئاسية.
مع كلّ هذه التغيّرات في السياسة العالمية، وعودة الموارنة الى رئاسة الجمهورية، تُبدي الأوساط المسيحية ارتياحها الى الدور الروسي في لبنان على رغم بعض انتقاداتها له في سوريا. وتشير الى أنّ الموارنة لا يبحثون عن حاضنة جديدة أو عن ولاء خارجي أو «أمّ حنون» بديلة عن فرنسا، لكنّ الواقعية السياسية تفرض أن تكون لأيّ طرف علاقات خارجية، لا تتضارب مع علاقات الدولة اللبنانية بل تُستخدم لمصلحتها.
ومن هذا المنطلق، تعتبر المرجعيات المسيحية عموماً، والمارونية خصوصاً، أنّ لروسيا مصالح في المنطقة، وهذه المصالح تهمّ كلّ الدول الكبرى، وعلينا أن لا ننخدع بأنّ أيّ دولة كبرى تعمل لحماية المسيحيين في الشرق، خصوصاً أنّ سكوت أوروبا عن المذابح والتهجير الذي تعرّضت له المسيحية المشرقية يجعلنا نفتّش عن أيّ غطاء دولي قادر على تهدئة الأمور وعدم زيادة الوضع سوءاً.
وتكشف مصادر ديبلوماسية أنّ زعماء كثراً يحاولون التقرّب من الروس وتنظيم زيارات الى موسكو ولقاء المسؤولين فيها لبناء علاقات معهم، وتهتمّ أحزاب مسيحية وشخصيات مارونية خصوصاً بهذا الأمر، ربما لمعرفة الدور الروسي المتجدّد في المنطقة، وتأثيره على انتخابات رئاسة الجمهورية التي لا تستوي إلّا بحصول توافق إقليمي دولي، تشكل موسكو أحد أهمّ محاوره.
يُعلّق أحد القادة الموارنة على ما حملته الإنتخابات الأميركية من فوز الجمهوري دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية، من ثمّ تقهقر اليسار في فرنسا والمنافسة المحتمَلة بين اليمين واليمين المتطرّف في الإنتخابات الرئاسية المقبلة، فيعتبر أنّ علاقتنا بباريس تراثيّة وثقافيّة، مثلما قال الرئيس فرنسوا هولاند، فكلّ مسيحي يتعلّم اللغة الفرنسية مثل «الأبانا والسلام»، لكن عملياً فإنّ القوة باتت موجودة مع الروس، فيما أميركا هي الدولة التي تحكم العالم على رغم إعتكافها وتراخيها في المنطقة على عهد «الديموقراطيين»، من هنا يعتبر بناءَ علاقات جيّدة مع موسكو أمراً لا مفرّ منه، خصوصاً أنها لم تؤذِ لبنان، وكلّ ما حصل للمسيحيين سابقاً تتحمّل مسؤوليته كلّ دول العالم التي سلّمت لبنان الى النظام السوري بعد «اتفاق الطائف».
قد تحمل الأيام المقبلة تطوّرات مهمّة على صعيد المنطقة، لكنّ الموارنة مرتاحون الى إعادة إحياء الدولة والمؤسسات بعد إنتخاب رئيس للجمهورية، ما يثبّت وجودهم داخل التركيبة والنظام، خصوصاً أنّ 6 سنوات هي فترة طويلة يستطيعون خلالها تعديل موازين القوى، إذا لم يتلهّوا بنزاعاتهم الداخلية، ويضعوا استراتيجية واضحة، لأنّه ثبُت للجميع أنّ انهيار الدول يؤدّي الى زوال الوجود المسيحي.