مع رحيل المفكر والناقد السوري الكبير صادق جلال العظم فقدت الثقافة العربية ربما أهم مثقف عام منذ الحرب العالمية الثانية.
 

 قلائل جداً الكتاب العرب الذين شرّحوا نقدياً البنى الفكرية والسياسية والدينية المهيمنة في العالم العربي بصدق لا يعرف المساومة كما فعل العظم مدى نصف قرن بالعربية والانكليزية والالمانية. ان يحتضر صادق وهو يراقب حلب تحتضر، والانتفاضة التي أيدها تنتكس، وان يتوفى ويدفن في منفاه الالماني بدل ان يحتضنه ثرى سوريا الى الابد، هو ألم لا يحتمل لمحبي صادق الكثر.

تعرفت إليه في بيروت عندما كنت في الثامنة عشرة من عمري بعد صدور كتابه "النقد الذاتي بعد الهزيمة" وقبل صدور كتابه التالي "نقد الفكر الديني". كنت ومجموعة صغيرة من الاصدقاء اليساريين نرافقه الى المحكمة حين احالته الحكومة اللبنانية على القضاء بعد صدور "نقد الفكر الديني" لاظهار تضامننا معه بعدما تعرض لتهديدات. آنذاك في 1969 قبل طغيان التيارات والحركات الظلامية التي تلف نفسها بغطاء اسلامي، والتي اغتالت لاحقاً شخصيات فكرية بارزة أمثال حسين مروة ومهدي عامل، كان الادباء والكتّاب يتصدون دون خوف للترهيب الفكري أكان مصدره دولة متخلفة أم رجال دين أكثر تخلفاً. كثيرون وقفوا مع صادق في ذلك الوقت وأذكر منهم بالتحديد أدونيس وأنسي الحاج.
بعد هزيمة 1967 تحولت بيروت الى بيت حاضن للمفكرين العرب الذين حاولوا تشريح واقع الطغيان العربي وتعريته من الاكاذيب السياسية والاساطير الغيبية لمعرفة أسباب الهزيمة وتخطيها بالديموقراطية والتمثيل السياسي الحقيقي وفصل الدين عن الدولة. آنذاك، أعطتنا سوريا، عبر مجلة "مواقف" التي أسسها أدونيس (وغيرها من المطبوعات اللبنانية، مثل "الطليعة" و"الطريق" وملحق "النهار")، أجمل ما لديها من مبدعين، أمثال صادق وأدونيس وسعدالله ونّوس ومحمد الماغوط وغيرهم.
كنت ألتقي صادق عندما كان يزور الولايات المتحدة، وشاركنا في ندوات ومؤتمرات، وكنا دائما نتابع حواراتنا وكأننا لم نفترق سنوات. وتعلمت منه حب الادب الروسي والفلسفة الأوروبية في القرن التاسع عشر.
إلتقيته للمرة الأخيرة في بوسطن خلال السنة الثانية للانتفاضة السورية. أذكر انني كنت متشائماً أكثر منه، لكنه، مع ادراكه لجسامة التحدي، كان على عهده مقاوماً شرساً لليأس والاحباط.
قبل أيام كتبت مرثية لحلب، وتذكرت ان صادق المريض في منفاه الالماني سوف يرحل قريباً، ويترك فراغاً كبيراً في حياتنا، أنا وجيلي من اللبنانيين والعرب الذين عاشوا حقبة ما بعد هزيمة 1967، ورأوا فيه منارة فكرية لا تخبو، وسأضطر قريباً الى كتابة مرثية لصديق عزيز ومعلم كبير. وداعاً صادق.