لم تكن الثورة تمتلك غرفة ليجتمع فيها الناشطون، ومع هذا استمرت، لم تكن تمتلك القدرة على تنظيم مظاهرة سلمية واحدة، ومع هذا استمرت، لم تكن تمتلك بارودة ولا مخزناً مذخّراً ومع هذا استمرت، لم تفكر الثورة بأن تحرر المدن، ولا أن تصير دولة داخل الدولة، كانت تحلم بالحرية، وما زالت تحلم بالحرية، كانت تحلم بالعدالة وما زالت تحلم بالعدالة، الثورة ليست مدينة محررة، ولا حدوداً ولا فصائل وكتائب قوية، الثورة أبعد من ذلك كله بكثير، الثورة فكرة، والفكرة تستطيع التسلل وإن كان المكان محاطاً بآلاف الجنود والمرتزقة، لم تكن الثورة تستطيع أن تواجه جيوشاً وصواريخ وطائرات وبراميل متفجرة وأسلحة كيمياوية، ومع هذا استمرت، لم تكن قادرة أن تعيش في المعتقلات تحت الأرض، وأن تتعرض لأسوأ صنوف التعذيب، لكنها استطاعت أن تواصل طريقها، ذلك طبع الثورة وهو ليس اختيارياً بل هو قدرها، قدرها أن تنهض من جديد، قدرها أن تقاوم، قدرها أن تصنع المستحيل، لم تكن الثورة في حاجة إلى أولئك الملتحين الظلاميين، ولم تكن في حاجة لجيوش الجهاديين، لم تكن كذلك في حاجة للدول الديمقراطية، لم تكن في حاجة إلى شيء أصلاً لأنها ثورة، ثورة تكتفي بذاتها تصنع معجزتها بيديها العاريتين، تستطيع أن تقهر الجميع وأن تواصل سيرها، لا تتوقف لأن أحداً ما أمرها بالتوقف، ولا تتوقف لأن أحداً ما قرر أن ينسحب ويشتمها، يقول عنها بأنها لم تعد ثورة، هي أصلاً لا تبالي بما يقوله عنها الآخرون لأنها حرة متمردة، تخالف قوانين الطبيعة البشرية ولا تقبل أن توضع في حظيرة، هي هكذا، لا تطلب من أحد أن يؤمن بها، ولا تجبر أحداً على السير وراءها، طريقها طويل وشائك وهي قادرة على مواصلته، حتى تصل إلى هناك، إلى المكان الذي لم يصل إليه أحد سواها…
لا تريد الثورة سياسيين يتحدثون باسمها، ولا تجاراً يبيعون ويشترون باسمها، ولا كتاباً يكتبون الكتب عنها، لا تريد أي شيء من أي أحد، فالناس هم من يحتاجون إليها وهي ليست في حاجة لأحد…
تحطم من يقف في وجهها لكنها ليست عنيفة، تحب العصافير ولا تحب الصقور، تحب الأرانب ولا تحب الذئاب المفترسة، تحب الزهور ولا تحب الأشجار الباسقة، تحب الجداول ولا تحب هيجان البحر، تحب السلام ولا تحب الحرب، هي أضعف من عشب وأقوى من بركان، هي التناقض والاختلاف، هي العبادة والإلحاد، هي الحقيقة وهي الوهم أيضاً، عليك أن تقبلها هكذا، لأنها ثورة…
ولأنها ثورة فلا تتعب نفسك في تفسيرها، ولا تتعب عقلك في البحث عن تعريف منطقي لها، فهي تخالف المنطق، وتعلو على الفلسفة، هي أكبر من الشعر، متطرفة وصوفية، علمانية وسلفية، هي الصحراء الموحشة الباردة الجافة، وهي الغابة الخضراء الرطبة، هي ثورة…
هي لعنة تلاحق صاحبها، وهي رحمة تفيض على الجميع، هي كراهية ومحبة، تضعف وتنزوي وحيدة في مكان ما، ثم تنهض دون أن يشعر بها أحد، يحملها طفل صغير ويسير بها بين الناس دون أن يلمحه الآخرون، يزرعها في أرض قاحلة ويرويها بدموعه ويغادرها، فتنبت، يكرهها الطغاة والأثرياء وعبيد السلطة، يكرهها التجار ورجال الدين والسياسيون، يحاصرونها يريدون أن يعيدوها إلى بيت الطاعة، يقولون عنها إنها سيئة، ستفسد الناس، يقولون إنها إرهابية، يحبها المتمردون والعاشقون والشعراء، يحبها الأطفال لأنها تغني لهم، يدافعون عنها، كل واحد يقول هذه ثورتي، أريدها لي أنا فقط، هذه ثورتي أنا وليست ثورتكم… لكنها لا تكترث فهي ليست لأحد، ولن تكون لأحد..
يقول الشعراء: الثورة نشيد حر… فتضحك
يقول المتمردون: الثورة حرية… فتضحك
يقول العاشقون: الثورة محبة… فتضحك
يقول الأطفال: الثورة فرح ولعب… فتضحك
تقول الثورة: أنا هذه الأشياء كلها، إن أردتموني فحرروني منكم أولاً، لا تقولوا عني ما لا تعرفون، لا تطلقوا علي الأسماء، ولا تضعوني في قوالبكم…لا تقيموا لي التماثيل، ولا تكتبوا عني القصائد، لا تسموا شوارعكم بأسمائي، لا تحلموا بي، ولا تمنحوني هدية لحبيباتكم، لا تضعوني في بيوتكم، ولا تزرعوا الزهور لأجلي، وحين أخذلكم لا تخذلوني، وحين ابتعد عنكم لا تنسوني، حين يموت أحبابكم لأجلي لا تكرهوني، وحين تتهاوى بيوتكم سأكون بيتكم، وحين تنهار مدنكم سأكون مدينتكم، أنا بدايتكم ونهايتكم، أنا أحلامكم… لا تسيروا ورائي ولا أمامي، لأني سأكون فيكم، في دواخلكم… في عيون أطفالكم، في ضحكهم، في لعبهم، سأكون في كل شيء، ولكل شيء، ولكني لن أكون لأحد منكم… سأمشي حتى وإن كنت وحيدة… فأنا فكرة.
الثورة مستمرة….