يمكن قراءة عمليات التهجير والتغيير الديموغرافي في سورية على عدة مستويات، بدءاً من اعتبارها محاولةً من نظام الأسد لحماية مركزه الرئيسي في العاصمة دمشق والساحل، وحتى تطهير مناطق أوسع، من أجل تحقيق مصالح استراتيجية صغرى، كما يتردّد حول "سورية المفيدة" التي تمتد من دمشق إلى الساحل، وليس انتهاءً بمحاولة تغيير سورية ديموغرافياً، لأسبابٍ أوسع من رغبة النظام السوري وطموحاته، وهنا يصبح النظام أحد أدوات التنفيذ لا غير.
لا يأتي استخدام النظام السوري الأسلحة الكيماوية والبراميل المتفجرة واتباع سياسات الأرض المحروقة ودكّ المدن ضمن استراتيجية عسكرية لمواجهة "جماعات مسلحة"، مهما ادّعى النظام وأنصاره ذلك، فهذه أسلحة قتلٍ عشوائي، تستخدم بغرض إبادة السكان وتهجير من يتبقى منهم، ونجحت في ذلك حتى الآن، مع اكتمال العقد في حلب.
قتل النظام مئات الآلاف، وهجّر الملايين. وتقدّر نسبة السوريين المهجّرين في الداخل والخارج بقرابة نصف السكان. لا تعكس هذا الأرقام استراتيجيات محدودة، تتعلق بتغيير ديمغرافي موضعي، مثل تبديل السكان بين الزبداني والفوعة، أو هيمنة حزب الله على القصير وتهجير سكانها لأغراضٍ أمنية، أو طرد المعارضة المسلحة من حلب وإعادة "المدينة المارقة" إلى أحضان النظام.
لا يمكن فهم ما يحدث في سورية، ومقدار العنف والتوحش، إلا باعتبارها معركة إيرانية طائفية واحدة، تمتد من العراق وسورية ولبنان، وحتى اليمن. فالإيرانيون بدأوا انتهاج العنف والحرب الطائفية لإجراء تغييراتٍ ديمغرافية في العراق، ابتداء من الاحتلال الأميركي، وبصورة أكثر وضوحاً في سنوات 2006 إلى 2008، والمعركة مستمرة.
نجحت إيران، والحكومة العراقية التابعة لها، في المضي بهذا المشروع في بغداد، ثم حاولت تطبيقه في الموصل. وفي سياقٍ كهذا، لا يهم إحلال سكان بدلاء، بل يكفي طرد المواطنين "غير المرغوب بهم"، وإبقاء المنطقة تحت هيمنة المليشيات الطائفية.
إذا تمت قراءة الحروب في المنطقة، بصورة منفصلةٍ وفق الحدود الوطنية، سيبدو وكأن مصير العراق قد حسم نهائياً، بدخوله تحت الهيمنة الإيرانية. والتغيرات الديمغرافية التي جرت فيه، لا تتجاوز كونها حروب كراهية وانتقامات صغرى. بالمنطق نفسه، يمكن قراءة ما يحدث في سورية باعتباره تطهيراً طائفياً محدوداً، يجري لتحصين مواقع النظام، وصولاً إلى "سورية مفيدة"، أو حكم طائفي محدود.
لكن ما يجري على الأرض يدحض محاولات تحجيم خطط التغيير الديمغرافي، واعتبارها إجراءات جراحية محدودة. فالإيرانيون يدركون تماماً أن فقدان سورية (المنطقي بالحسابات الديمغرافية) يعني خسارة العراق أيضاً. فنشأة نظام سياسي معاد لإيران في سورية، وله ثأر معها، سيعني تلقائياً ضعف مواقع طهران في لبنان والعراق.
وإنْ لم يهدّد تغيير كهذا النظام العراقي الموالي لطهران، فإنه على الأقل سيتسبب في تقسيم العراق، بخروج المحافظات السنية عن هيمنة الحكم الطائفي المليشياوي في بغداد.
يقرأ الإيرانيون المنطقة باعتبارها ساحة حربٍ واحدة، وينعكس هذا على سلوكيات إيران وأذرعها في المنطقة، فالمليشيات الطائفية العراقية لم تكتف بالقتال في العراق، بل تقاتل في سورية أيضاً، ولو استطاعت الوصول إلى اليمن لفعلت، ولا تخفي تهديداتها للخليج، كما في تصريحات قيس الخزعلي وأبو مهدي المهندس وآخرين. في مقابل أن حزب الله يفعل الأمر نفسه، فيقاتل في سورية، وحاول مسبقاً نقل خبرات عسكرية إلى اليمن، إضافة إلى دخوله (المحدود) للساحة العراقية، وتهديداته للخليج.
لا تتناقض هذه الاستراتيجية مع العقلية الروسية المتحالفة مع طهران، فالروس مارسوا التهجير والإبادة في الماضي والحاضر، ولا ننسى نموذج فلاديمير بوتين القريب في دكّ غروزني.
يهدف التغيير الديمغرافي الطائفي في سورية، وفق منطق المعركة الإيرانية الواحدة، إلى ضمان تهجير وإبادة أكبر عدد من الخصوم، وهم السنة العرب تحديداً، لضمان إمكانية تحجيم قوة سورية الإقليمية مستقبلاً، في حال انهيار النظام لأي سبب. وهنا، يلخص رجل الدين المقرب من خامنئي، مهدي طائب، نظرة إيران الاستراتيجية: "لو خسرنا سورية لا يمكن أن نحتفظ بطهران. لكن، لو خسرنا خوزستان (الأحواز) سنستعيده، ما دمنا نحتفظ بسورية".
بدر الراشد