إنفرجَت مناخياً وانحسرت العاصفة، بعدما خلّفت أضراراً وخسائر في مختلف المناطق، وأمّا عاصفة التأليف فتصاعدت وتعقّدت بعدما كانت الحكومة قابَ قوسين أو أدنى من أن تعلَن. لكأنّ هذه الحكومة مصابة بالنحس، فما إن تُحلّ عقدة حتى تنبت أخرى، وما إن تُحسَم حقيبة حتى تتعقّد أخرى، بحيث لم يعُد يُعرف السبب الحقيقي الكامن خلف التعطيل، سواء أكان سياسياً أو متعلقاً بنوع وحجم التمثيل لهذا الطرف أو ذاك.
على هذه الصورة الملبّدة بالتعقيدات التي تتناسل من بعضها البعض، لا يمكن توقّع تصاعُد الدخان الأبيض في المدى المنظور، إلا إذا رست المشاورات على تفاهم سياسي صُلب يولّد الحكومة فوراً ومن دون استئذان أحد.

إلا أنّ هذا التفاهم غير متوافر حتى الآن، والافتراق السياسي على باب الحكومة لا يؤشر الى إمكان صوغِه في المدى المنظور، علماً أنّ الرئيس المكلف سعد الحريري خفّف الاندفاعة التفاؤلية التي شاعت في الساعات الاخيرة وتحدّثَت عن ولادة وشيكة للحكومة، حينما اعلنَ من القصر الجمهوري انّ توليد الحكومة ما زال يحتاج الى مزيد من المشاورات.

أين تكمن العقدة؟

القوى السياسية على اختلافها ترفَع لواء التسهيل وتنفض يدَها من مسؤولية التعطيل والتأخير، وتَرفع عن نفسها تهمة وضعِ العصيّ في الطريق. لكن عند الترجمة العملانية سرعان ما يظهر انّ دواليب التأليف عالقة في مكانٍ ما، وليس لدى أيّ من القوى جواب شافٍ يحدّد السبب، وكأنّ تلك الدواليب مفَرملة بفِعل «راجح» مجهول الهوية والغايات والأسباب والأهداف، كامنٍ وسط الطريق ويُجمّد التأليف في مربّع السلبية.

كان منتَظرا أن تبعث زيارة الحريري الى بعبدا، الدخانَ الابيض في سماء التأليف، لكن بدل ان تُسرّع من مخاض الولادة الحكومية، تراجعت الامور الى الوراء، وقال الحريري صراحةً إنّ إنضاج الطبخة الحكومية يحتاج الى مزيد من المشاورات، إنّما السؤال في ايّ اتجاه، طالما إنّ حصصَ الاطراف قد حسِمت كمّاً ونوعاً، وحسِمت أيضاً الحقائب السيادية وكذلك المصنّفة اساسيةً وخدماتية؟

عون يسأل

بحسبِ الأجواء التي رافقت زيارته، فإنّ الحريري حملَ إلى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون صيغةً حكومية من 24 وزيراً مع ملحق إضافي من 6 وزراء، ما يَعني الذهابَ الى حكومة ثلاثينية. وخرجَ من اللقاء من دون الوصول الى تفاهم حولها، وكانت واضحةً علاماتُ عدم السرور على وجهه لحظة الخروج، خصوصاً أنّ عون فضّلَ التريّث في دراسة الصيغة، بعدما لاحَظ أنّها خرَجت في بعض الحقائب عن السياق المتّفَق عليه مسبقاً، فضلاً عن انّ بعض الأسماء المطروحة للانضمام الى الصيغة الثلاثينية قد تكون محلَّ تحفّظٍ خصوصاً من قبَله.

وقالت مصادر مطلعة لـ«الجمهورية» إنّ عون، وبعدما تلقّى صيغةَ الحريري الثلاثينية سأله عن المعادلات التي اعتُمدت في توزيع الحقائب، مشدّداً على ضرورة احترام التوازنات التي كانت قائمة في تشكيلة الـ 24 وبالتالي لا بدّ من رَوتشتها لتتوفّر فيها المواصفات التمثيلية المطلوبة.

على انّ اللافت للانتباه هو ما عكسَته قناة الـ«OTV» حولَ زيارة الحريري الى بعبدا، مشيرةً إلى أنّها «حملت تفاصيل إضافية، جاءت كأنّما لتؤكّد مرّةً جديدة، أنّها هي التفاصيل مَكمن الشياطين، ذلك أنّ الحريري حملَ صيغةً حكومية من 24 وزيراً. لكنّها مقرونة بمطالب معروفة، بزيادة عددِ الوزراء، ليصيرَ 30، علماً أنّ الرئيس المكلّف لا يمانع في ذلك لجهة المبدأ.

وهو ما وافقَه فيه رئيس الجمهورية، غير أنّ البحث في الانتقال من 24 إلى 30، لم يَلبث أن كشفَ مطالب كامنة لدى بعض أصحاب هذه الفكرة في الأساس، لا لمجرّد زيادة عدد الوزراء، بل أيضاً لزيادة عدد الحقائب العائدة لهذا البعض، ممّا يؤدي إلى تعديلات واضحة في ميزان التوزيع السابق، والذي كانت قد أنجِزت على قياسه، صيغة الـ 24، ميثاقياً ودستورياً، وسياسياً، وهو ما جعلَ المسألة معلّقة مرّةً أخرى، لإعادة البحث في المعادلات الجديدة».

تبعاً لذلك، يبدو أنّ الصيغة التي قدّمها الحريري، ظهّرت في الكواليس مطالبات جديدة بإعادة خلطِ التوزيعة الحكومية. وعلمَت «الجمهورية» أنّ الفريق الشيعي ومعه النائب وليد جنبلاط يفضّلان حكومةً ثلاثينية، كونها تتّسع لمختلف القوى السياسية، ولا سيّما الحزب القومي والنائب طلال ارسلان. وهنا بَرزت عناوين جديدة للتجاذب تتعلق بتوزيع الحقائب والتمثيل، بحيث أصبح من المنطقي توزيع حقائب الدولة على كلّ الأطراف بالتساوي.

وقالت مصادر مواكبة إنه في الصيغة الثلاثينية لا يمكن إسناد حقيبة دولة ثانية للفريق الشيعي الحاصل أصلاً على حقيبة دولة في صيغة الـ 24 هي حقيبة دولة لشؤون مجلس النواب، وبالتالي فإنّ منطق التوزيع يقول بأن تُسنَد حقيبة اخرى له تركَ بري للرئيس المكلف حرّيةَ اختيارِها، ويَرفض عون هذا الأمر باعتبار أنه سيُعيد خَلط أوراق التمثيل الوزاري.

وقالت مصادر بعبدا بعد انتهاء الاجتماع إنه إذا كان المقصود من زيادة عدد الوزراء زيادة عدد الحقائب فهذا مشكل، والأمور هنا تحتاج لمزيد من التشاور. ولخّصت العقد الأخيرة بالثلاثي: حقيبة الشيعة السادسة، تمثيل النائب أسعد حردان وحصّة الكتائب، متوقّعة أن تذلّل هذه العقبات خلال الساعات المقبلة، من خلال سلسلة اتصالات ومشاورات جديدة سيقوم بها الحريري.

جنبلاط

وفي سياق ما تقدَّم، تندرج تغريدة جنبلاط الذي قال: «أفضَل طريقة لاصطياد الوزارة العودة إلى الصيغة القديمة مع حصّة وازنة لـ«المردة» و«القوات».

إلّا أنه ذكرَ أنّ «اللقاء الديمقراطي» ليس «حبّة سردين ولا حوت كالبعض. الصيغة القديمة مناسبة مع بعض التعديل.. وكفانا لفّاً ودوراناً حول العدد، وفقَ حسابات المنطاد، ففي دائرة الثلاثين تستكمل الحلقة، حلقة الممانعة والممانعة المضادة”.

تَجدر الإشارة الى أنّ تغريدة جنبلاط سبَقت إيفادَه كلاً مِن الوزير وائل ابو فاعور والنائب مروان حمادة الى بيت الوسط.

وفي وقتٍ شاعَ فيه حديث عن تباينٍ وسلبيات وأجواء مكفهرّة تأتّت من لقاء عون والحريري، استَغربت أجواء الرئيسين محاولةَ إشاعة هذا المناخ غير الموجود اصلاً، وأكّدت على مسَلّمةٍ معمولٍ بها من قبَلهما ومفادُها «لا رئيس الجمهورية في وارد أن يختلف مع الرئيس المكلف، ولا الرئيس المكلف في وارد أن يختلف مع رئيس الجمهورية». وهذه المسَلّمة يفترض أنها توضح حقيقة العلاقة بينهما وتجيب عن كثير من التساؤلات.

وأكّدت اوساط الرئيس المكلف لـ«الجمهورية» أنّ «المشاورات تسير بوتيرة جدّية، واللقاء بين الرئيسين عون والحريري اندرجَ في السياق نفسه الذي ينتهجانه منذ تكليف الرئيس الحريري، وأساسُه الصراحة والتعاون والتفاهم، ومِن غير المنطقي القول إنّ الامور تدور في دائرة السلبية، بل بالعكس، المسؤولية يتحمّلها جميع الفرقاء، وبالتالي يجب ان يَدفعوا بإيجابية نحو تسريع تأليف الحكومة، ورهانُنا يبقى على التعاون للخروج بالحكومة في أقرب وقتٍ ممكن».

باسيل

وفي المواقف، أكّد رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل أنّ عون و الحريري لا يعارضان تمثيلَ «القومي»، معتبراً أنّ تمثيل جميع القوى السياسية ممكن في حكومة من 24 وزيراً».

ورأى أنّ ولادة الحكومة يجب أن تكون قبل الأعياد، وقال إنّنا «كلّنا مدعوّون إلى المشاركة، ولا أحد يستطيع إلغاءَ أحد».

برّي

وفيما عكسَ القصر الجمهوري الجوّ نفسَه، نُقل عن بري أنه في ظلّ الأجواء الإيجابية التي حَكمت مسار التأليف في الساعات الاربع والعشرين الماضية، كان يتوقع صدور التشكيلة الحكومية يوم أمس على أبعد تقدير. واستغربَ عدم الإعلان، خصوصاً وأنّه لا يرى أيّ سبب يمنَع ولادة الحكومة. إلا أنّه في ظلّ الإيجابيات الموجودة لم يقطع الأمل في ولادة قريبة للحكومة.

ونقِل عنه قوله: «لقد آنَ الأوان للخروج من دوّامة التأليف، كلّ يوم تأخير يضغَط على القانون الانتخابي الجديد ويهدّد إمكانَ الوصول إليه، وهو وحدَه يُخرِج البلد من دائرة الأزمة».