للطبيعة أساليبها السرية في المفاجأة، ولقوانين الوراثة أسرارها التي لا يمكن التنبؤ بها، ولذلك تظهر فجأة حالات استثنائية بين البشر، فبعض الناس القلائل يولدون في منتهى الجمال والصحة، وبعضهم يتمتعون بقوة بدنية نادرة، وآخرون يمتلكون ذكاء عبقرياً. ومع أن الجمال والقوة البدنية كانا محط اهتمام في التراث العربي، إلا أن التركيز الأكبر كان من حصة الملَكات النفسية العليا: من إدراك وذكاء وانتباه وذاكرة وعقل، التي تعمل معاً، ولا وجود لحدود صارمة بينها.
 
كانت للمعرفة والذكاء عند العرب مكانة عظيمة، حتى أنها كانت تفوق النسب والمال والجاه والسلطة، فبالذكاء وحده كان يُجادَل الخليفة ويحاجج قادته العسكريون، وبالابداع، كان يصل الشعراء إلى أعلى مراتب الشرف والشهرة. لا يضاهي العرب سابقاً أي شعب في تقدير الشعر واجلال المعرفة والعلم، وفي هذه المساحة المحددة سنعرض ثلاث حكايات عن الذاكرة الخارقة لدى ثلاثة أعلام من تاريخنا.
الخليفة أبو جعفر المنصور وصوت صفير بلبل الأصمعي
 
الخليفة العباسي الثاني المنصور (714 - 775)، الذي رسخ أسس الخلافة العباسية إدارياً وعمرانياً، وبنى مدينة بغداد على الضفة الغربية لدجلة، وجعلها مقراً للخلافة، ثم الرصافة على الضفة الشرقية، كان محباً للعلم والعلماء، ولكنه لم يكن كريماً مع الشعراء، فلم يقربهم، ولم يجزل لهم العطاء. وقد اشترط على أي شاعر أن تكون قصيدته من كتابته وليست منقولة، وإذا أثبت ذلك أعطاه ثقل ما كتبت عليه ذهباً. لقد كانت حيلة مسلية كي لا يدفع للشعراء، لأنه كان يحفظ القصيدة إذا سمعها مرة واحدة، وكان عنده غلام يحفظها إذا سمعها مرتين، وجارية تحفظها إذا سمعتها ثلاث مرات. وهكذا كان يقول للشاعر إن قصيدته منقولة يتداولها الناس، فيخرج من عنده مذهولاً مرتبكاً.
عرف الأصمعي بالأمر (740 - 831)، والأصمعي واحد من أئمة اللغة والشعر والبلدان كما هو معروف، إن لم يكن الأهم، وقد تجول كثيراً في الجزيرة العربية، وجال على قبائلها، يجمع أشعارها وأخبارها، حتى أنه أورد في "أصمعياته" أشعاراً لم ترد عند غيره، أي أنه كان عالماً بالمفردات الغريبة التي نادراً ما تستعمل، فكتب قصيدة للخليفة أكثر فيها من الاستعمالات اللغوية الغريبة الصعبة، وكان مطلعها:
 
صوت صفير البلبل     هيَّجَ قلبَ الرجلِ
 
وعندما أنشدها للمنصور، لم يستطع الأخير حفظها، ولا غلامه، ولا جاريته، فأمر أن يعطى الأصمعي ثقل ما كتبت عليه القصيدة، فأخبره الأصمعي أنها مكتوبة على الرخام!
 
كانت ذاكرة المنصور استثنائية، ومع ذلك، هناك سقف لكل ذاكرة. ما يثير في هذه الحكاية أيضاً، أن سلطة الخلفاء لها مرونة مقابل المعرفة والشعر، فكأن الأصمعي في هذه القصة قد تبارز مع المنصور في مجال الذاكرة والإبداع، وبشكل من الأشكال، قد انتصر عليه.
 
البحتري وأبو تمام في مجلس الأمير القائد العسكري
 
حكى البحتري (820 - 897) عن أول مرة التقى بأبي تمام (804 - 846) قبل أن يعرف من هو، فقال: أول ما رأيت أبا تمام كان يوم دخلت على أبي سعيد محمد بن يوسف وقد مدحته بقصيدتي التي مطلعها:
 
أأفاقَ صبٌّ من هوىً فأُفيقا     أم خان عهداً، أم أطاع شفيقا (الشفيق: الناصح المخلص).
 
فسر بها، وقال: أحسنت والله يا فتى. وكان في مجلس الأمير رجل رفيع المجلس منه، فوق كل من حضر في مجلسه، فأقبل علي وقال: "يا فتى أما تستحي؟ هذا شعري تنتحله، وتنشده بحضرتي؟" فقال أبو سعيد، صاحب المجلس، "أحقاً ما تقوله به؟" قال: "نعم، وإنما علقه مني، فسبقني به إليك”، ثم اندفع فأنشده القصيدة التي ألفها البحتري (وهي 72 بيتاً)، حتى شككه في نفسه، وبقي متحيراً، فأقبل عليه أبو سعيد، فقال: "يا فتى! كان في قرابتك منا، وودك لنا ما يعفيك عن هذا!".
بدأ البحتري يحلف بكل محرجة من الأديان أن الشعر له، وما سبقه إليه أحد، ولا سمعه، ولا انتحله، فلم يشفع ذلك شيئاً، وأطرق صاحب المجلس أبو سعيد، وقطع الكلام، حتى تمنى البحتري أن ساخ في الأرض، فقام منكسر البال يجر رجليه، وخرج.
فما هو إلا أن بلغ باب الدار حتى أقبل عليه الرجل، وقال: "الشعر لك يا بني! والله ما قلته قط، ولا سمعت به إلا منك، ولكن ظننت أنك تهاونت بموضعي، فأقدمت على الإنشاد بحضرتي من غير معرفة كانت بيننا، تريد بذلك مضاهاتي ومكاثرتي؛ حتى عرفني الأمير نسبك ووصفك، فوددت ألا تلد طائية إلا مثلك!" وجعل أبو سعيد يضحك، فدعاه أبو تمام، وضمه إليهم وعانقنه، وأقبل يمدحه، ومن وقتها، يقول البحتري: "لزمته بعد ذلك، وأخذت عنه واقتديت به".
 
وهنا أيضاً، مجلس الأمير يستخدم كمسرح لمنافسة بين مبدعين، هما البحتري وأبو تمام. في مجال الذاكرة والإبداع بدأت صداقتهما، وكان صاحب المجلس مضيفاً لكليهما ومكرماً لشعرهما.
 
وفي التأكيد على أهمية الذاكرة في مجال التأليف والشعر، يروى أن الشاعر ديك الجن الحمصي طلب من أبي تمام أن يحفظ 100,000 بيت من الشعر، وعندما حفظها طلب منه أن ينساها ليبدأ كتابة الشعر.
 
الأمير أسامة بن منقذ يحكي عن أبي العلاء المعري
 
حكى أسامة بن منقذ (الفارس الشاعر صاحب التصانيف العديدة، وأحد قادة صلاح الدين الأيوبي) عن أبي علاء المعري، فقال: كان بأنطاكية خزانة كتب أعرف خازنها، فجلست يوماً عنده، فقال لي: لقد خبأت لك خبيئة غريبة ظريفة، لم يسمع مثلها في تاريخ، ولا في كتاب منسوخ، قلت وما هي؟ قال: صبي دون البلوغ، ضرير يتردد إلي، وقد حفظته في أيام قلائل عدة كتب، وذاك أني أقرأ عليه الكراسة مرة واحدة فلا يستعيد إلا ما يشك به، ثم يتلو علي ما سمعه، كأنه كان محفوظاً له. قلت لعله قد يكون، فقال سبحان الله، كل كتاب في الدنيا يكون محفوظاً له، ولئن كان كذلك فهذا أعظم.
حضر المشار إليه، وهو صبي دميم الخلقة، مجدّر الوجه، على عينيه بياض من أثر الجدري كأنه ينظر بإحدى عينيه قليلاً، وهو يتوقد ذكاء، يقوده رجل طويل من الرجال، أحسبه يقرب من نسبه. قال له الخازن: يا ولدي! هذا السيد رجل كبير القدر، وقد وصفتك عنده، وهو يحب أن تحفظ اليوم ما يختاره لك، فقال: سمعاً وطاعة، فيختار ما يريد. قال ابن منقذ: فاخترت شيئاً، وقرأته على الصبي، وهو يموج ويستزيد، فإذا مر من شيء يحتاج إلى تقريره في خاطره قال: أعد هذا، فأرده عليه مرة أخرى حتى انتهيت إلى ما يزيد عن كراسة، ثم قلت له: يقنع هذا من قبل نفسين قال: أجلن حرسك الله! قلت كذا، وتلا علي ما أمليته عليه، وأنا أعارضه بالكتاب حرفاً حرفاً حتى انتهى إلى حيث وقفت عليه، فكاد عقلي يذهب لما رأيته منه، وعلمت أنه ليس في العالم من يقدر على ذلك إلا أن يشاء الله، وسألت عنه، فقيل لي: هذا أبو العلاء المعري التنوخي من بيت العلم والقضاء والثروة والغناء.
إن في التأكيد على "دمامة" المعرّي في هذه القصة وغيرها ما يثير بالفعل عن قدرة المعرفة وحدها أن ترفع صاحبها فوق كل المعايير الأخرى: من الشكل والهيئة، إلى الغنى والمكانة الاجتماعية، إلى السلطة والشهرة، فقد برز المعري فيها كلها بشخصه وإبداعه وحدهما!
ويروى عن أبي العلاء ما هو أغرب من ذلك، وهو أنه حفظ مرة حديثاً طويلاً بالفارسية دون أن يفهم معناه، وأبلغه إلى صاحبه كلمة كلمة، ومثل ذلك بالأذربيجانية. علاوة على حفظه لأشعار العرب، وعلم اللغة والأنساب، وغيرها من الفقه والفلسفة والتاريخ. ولكن لم يرو عن أحد يحفظ النثر هكذا سوى عن شاعره المفضل: المتنبي!
هي حكايات عن رجال عظام من تاريخنا، تتخطى في دلالاتها مسألة الحفظ، وتدخل في حيز الإبداع الجديد الطازج، ولذلك يقول علم النفس: إن الذاكرة في أعلى درجاتها إبداع.