لا يَجمع الكثير بين بريطانيا وفرنسا وألمانيا في الفترة الأخيرة. لكنَّها، مع ذلك، تتشارك سمة واحدة لافتة للنظر، وهي تأثير المعتقدات الدينية على الحياة السياسية.
تيريزا ماي، رئيسة الوزراء البريطانية، عبَّرت عن أنَّ إيمانها المسيحي يُملي عليها العديد من قراراتها السياسية.
ولدى ماي أيضاً رسالة واضحة إلى أقرانها المسيحيين: لا تخشوا الحديث عن إيمانكم، حسب تقرير نشرته صحيفة واشنطن بوست الأميركية.
وعبر القناة الإنكليزية، فاز مؤخراً بطل القيم الكاثوليكية ورئيس الوزراء الفرنسي السابق، فرانسوا فيون، بانتخابات تمهيدية ليصبح المرشَّح المحافظ في الانتخابات الرئاسية المقبلة التي تجري عام 2016.
وفي ألمانيا المجاورة، قادت المستشارة الألمانية، وزعيمة حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي، أنغيلا ميركل البلاد لمدة 11 عاماً، وتأمل في إعادة انتخابها مرة أخرى عام 2016.
ويُنسَب الفضل في قرار ميركل السماح بدخول نحو مليون لاجئ إلى البلاد العام الفائت إلى قيمها المسيحية البروتستانتية.
الأقل تديناً
وسيكون لدى البلدان الثلاثة في العام المقبل، أو لديها بالفعل، قادة سياسيون من المسيحيين المتدينين. لكن في الوقت نفسه أيضاً تقبع البلدان الثلاثة ضمن الدول الأقل تديُّناً في العالم.
وتُعَد هذه الظاهرة نتيجة غير متوقعة أخرى، ناتجة عن الاضطرابات السياسية التي شهدها العام 2016، بما في ذلك قرار بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي، وفوز دونالد ترامب بالرئاسة في الولايات المتحدة، بالإضافة إلى صعود حركات اليمين المتطرف في فرنسا وألمانيا.
ووجد مسحٌ أُجراه كلٌّ من مؤسسة غالوب العالمية "غالوب إنترناشيونال" والشبكة العالمية المستقلة لأبحاث السوق على 65 بلداً العام الماضي، أن 66% من المواطنين البريطانيين عُرِّفوا على أنَّهم "لا دينيون" أو ملحدون.
وفي ألمانيا، عرِّف 59% من السكان على نفس النحو. وفي فرنسا، كانت النسبة 53%. وقد اعتمد المسح على 63.898 مقابلة.
الأكثر علمانية
وبشكلٍ عام، لا يوجد أي بلدٍ أوروبيٍ يمكن اعتباره أكثر علمانيةً من فرنسا، على الأقل رسمياً. وعلى سبيل المثال، فإنَّ جمع البيانات حول الانتماءات الإثنية والمعتقدات الدينية محظور بشكل عام في فرنسا.
وكان هذا القانون، الذي مُرِّر في عام 1978، ردَّاً على مظالم تاريخية. وكانت للأسئلة حول الانتماءات الإثنية والهُويَّات الدينية للمواطنين دلالات مريرة، لا سيِّما بعد إجبار اليهود على وضع شارات على شكل نجوم صفراء على ملابسهم خلال الحرب العالمية الثانية. ويتضمَّن نموذج الدولة العلمانية في فرنسا كذلك حظراً عاماً للمظاهر الدينية في المجال العام.
ومع ذلك، فإنَّه، وكما لاحظ الصحفي جيمس مكاولي من صحيفة الواشنطن بوست، يمكن أن يُحدِث فيون تغييراً في مضمون العلمانية في فرنسا. فيقول مكاولي إنَّه "يُنظَر إليه على أنَّه محاربٌ صليبي في خِضم حربٍ مقدسةٍ... باختصار، ما يَعِد به هو عودةٌ إلى جذور أمَّته. وفي نظره، هذه الجذور هي بالأساس الكاثوليكية".
واستَخدمت مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان، التي من المرجَّح أن تكون منافسةً بارزةً في الانتخابات الرئاسية في فرنسا، قيماً مسيحيةً لتبرير بعضٍ من مقترحاتها السياسية.
ويُلقي عددٌ متزايدٌ من المسيحيين المعتدلين باللوم على كلٍّ من الهجمات المدمِّرة على مدار العاميْن الماضيين والمجتمع المُنقَسِم في فرنسا لتسبُّبِها فيما يرون أنه فقدانٌ للقيم.
ميركل البروتستانتية
وفي ألمانيا، حاولت ميركل أن تُقيم توازناً. فالمسيحيون المتدينون يمثِّلون كتلة تصويتية مؤثِّرة في البلاد، وقد خذلت ميركل العديدين منهم بابتعادها عن المواقف المُحافِظة على مدار العاميْن الماضيين.
وخوفاً من هزيمتها في الانتخابات المقبلة، دافعت ميركل عن بعضٍ من قراراتها التي لا تحظى بشعبية كبيرة، باعتبارها قد اتَّخذتها مُتأثِّرةً بالقيم المسيحية.
وجاء هذا في الوقت الذي حملت فيه حركة "بيغيدا" المُناهضة للهجرة، على سبيل المثال، الصُّلبان المسيحية في كثيرٍ من مسيراتها.
وقد مثَّل قرار ميركل بفتح الحدود في وجه مئات الآلاف من اللاجئين المسلمين، في معظمهم، تهديداً للجذور المسيحية للبلاد في نظر أعضاء هذه المجموعة.
وأعرب بعض الساسة الكاثوليك من داخل حزب ميركل عن مخاوف مماثلةٍ، مُدَّعين أنَّ سياساتها المؤيدة للاجئين "غير مسيحيةٍ".
وحاولت ميركل، وسط مثل هذه الانتقادات من قاعدتها الانتخابية الأساسية وحلفائها السياسيين، أن تضع سياساتها في إطار سياقٍ مسيحي.
وفي الوقت الذي يُعرِّف فيه أكثر من نصف الألمان أنفسهم على أنَّهم ملحدون، تعكس محاولات ميركل تفسير سياساتها الأكثر ليبرالية باستخدام التبريرات الدينية معاناتها في استمالة تأييد هؤلاء الناخبين اللادينيين، وكذلك تأييد أنصارها الأساسيين الذين يَبدون ساخطين على نحوٍ متزايدٍ.
ابنة قسيس
ومثل ميركل، فإنَّ ماي، رئيسة وزراء بريطانيا، هي ابنةٌ لأحد القساوسة.
ونُقِل عنها قولها في إحدى المقابلات في 2014 إنَّ "الإيمان المسيحي جزءٌ منِّي. إنَّه جزءٌ من كينونتي، وبالتالي جزءٌ من الكيفية التي أتعاطى بها مع الأمور". وأضافت أنَّه "موجودٌ هناك ويساعدني بوضوحٍ على تشكيل تفكيري ونهجي".
وفي حين اتُّهِمت ميركل وفيون باستخدام القيم المسيحية للدفاع عن مواقف سياسية مثيرة للجدل، فإنَّ إشارات ماي العديدة لمعتقداتها الدينية لم تُفسَّر على أنَّها محاولة لاستخدام الدين في تبرير سياساتها. وفي ظل تعريف ما يقرُب من ثلثيْ الشعب البريطاني على أنَّهم لا دينيون أو ملحدون، فإن نهجاً كهذا بالكاد سيساعد ماي على استمالة تأييد الجماهير.
(هافينغتون بوست)