إلى ذلك تقع أهمّية تدمر بالنسبة إلى «داعش» في حقول النفط الأربعة التي تجاورها. وثمّة أهمّية رمزية أُخرى لتدمر كونها إدارياً تابعة لريف حمص، وعليه، كان معنى تحريرها استعادة النظام لأوّل محافظة سوريّة بكاملها.عدا ما تقدّم فإنّ معركة تدمر الراهنة تتم ضمن عناوين أخرى، على صلة بتصفية حساب يجريه «البنتاغون» الاميركي مع موسكو على خلفية تمادي الاخيرة في إدارة الظهر لواشنطن في حلب.
بحسب معلومات خاصة بـ«الجمهورية» فإنّ الرواية السائدة في موسكو عن اسباب سقوط الرقة، تتحدّث بدايةً عن اعتراف بخلل في الجهد الاستخباراتي الذي كان عليه استشعار هجوم تدمر خلال الإعداد له، إذ إنه بحسب المنطق العسكري فإنّ الإعداد لهذا الهجوم استغرق نحو ثلاثة اسابيع، لكنّ موسكو تعتبر انّ المسؤولية الاساسية تقع على عاتق تعليق التحالف الدولي اعمالَه الجوّية فوق حمص وريفها، وأيضاً قيام قيادة هذا التحالف بإيصال اقوى الإشارات لـ«داعش» بأنّ هجومه لتحرير الرقة مؤجّل الى الربيع المقبل.
امّا مسؤولية واشنطن الثانية والاساسية فتتمثّل بالهدف الاستراتيجي وغير المعلن الذي وضعَته لخطة التحالف في الموصل، والقائم على إخراج الدواعش غير العراقيين من العراق، فيما اعضاء «داعش» العراقيين يتم احتواء معظمهم عبر إعادة تأهيلهم ضمن تركيبات مجتمع نينوى والأنبار العراقي العشائري.
وتطبيق هذا الهدف سمَح أخيراً لنحو اربعة آلاف مقاتل داعشي بالهروب من الموصل الى الرقة، ليشكّلوا فائضاً في قوة «داعش» العسكرية في سوريا، وهذه القوة الفائضة هي التي استثمرتها «داعش» للاندفاع مجدداً نحو تدمر وإسقاط مطار «تيفور» الاستراتيجي المحسوب تاريخياً على الروس الذين كانوا بنَوه قبل نحو ثلاثة عقود بالتعاون مع الكوريين، وهو يَبعد مسافة 40 كلم غرب تدمر، وفيه مهاجع لطائرات سوخوي. وفي نظر مراقبين، يُعتبر سقوط «تيفور» اقوى رسالة من «البنتاغون» الى الجيش الروسي، مفادُها أنّ استقرار قواعده العسكرية في المتوسط، امرٌ يحتاج ليس الى زيادة ارادة التحدّي مع واشنطن، بل الى تفاهم اعمق.
وعلى رغم سقوط تدمر إلّا انّ الأولوية بالنسبة الى موسكو والنظام لا تزال لحلب، وإنهاء صفقة اخراج مسلّحيها المتبقّين داخل مساحة 3 في المئة من المدينة. وتوضح المصادر السورية تقديراً عسكريا يفيد أنّ الخروج السريع لقوات النظام والروس من تدمر يعكس وجود قرار استراتيجي لدى دمشق وموسكو يرى انه يمكن تحمّل بقاء «داعش» موقّتاً فيها، فيما تحافظ قوات النظام على خط دفاع غرب تدمر عن حمص والقلمون،لتتمّ إعادة تحريرها في توقيت سياسي وعسكري مناسب يتمّ تقويمه على اساس نتائج معركة حلب وليس على اساس التفاعلات الاعلامية والمعنوية للتشويش التكتيكي الذي مارسَته «داعش» في تدمر، والذي تقاطعَ مع اجندات خارجية ترغَب به لتشوّشَ على ما تسمّيه موسكو لحظة تعديل المسار في الأزمة السورية الناتج عن معركة حلب. وتقدّم هذه المصادر دلائلَ عدة لتدعيم نظريتها الآنفة، بينها قيام الروس بطلعات جوّية ذات منسوب عادي ضد هجوم «داعش» على تدمر.
توضح هذه المصادر انّ استراتيجية روسيا بعد حلب لا تقع ضمن اهدافها تدمر ولا حتى الاحتكاك بـ«داعش» التي هي ورقة مؤجّلة بالنسبة اليها، بل تنصبّ على محورين استراتيجيين اثنين لن تحيد «حميميم» عنهما على رغم تطور تدمر، وهما سيَستغرقان من جهد روسيا، الفترة الاطول من السنة المقبلة:
ـ المحور الاوّل، يتعلق بإتمام المصالحات مع المسلحين الموجودين في جيوب محاصرة في المناطق المغلقة، اي في مناطق ارياف حمص ودمشق واللاذقية وحلب ومناطق مجاورة لأوتستراد «إم 5».
ـ المحور الثاني، يتعلّق بالتعامل مع الفصائل المسلحة في المناطق المفتوحة في الشمال، وتحديداً في حماه وإدلب وحلب، عبر تنظيم مصالحات تشارك فيها تركيا، وأيضاً استخدام عمليات ضغط عسكري غير شامل.
وتَستهدف هذه الاستراتيجية على هذين المحورين «إخراج 900 منطقة في سوريا من دائرة الثورة» ضد النظام، لمصلحة إعادتها الى حضن الدولة.
تبقى ملاحظة مهمّة في جعبة قارئي معركة تدمر، وهي تعتبر ان لها صلة بهندسة معركة الرقة. فـ»داعش» قرّرت استغلال فائض مقاتليها الذي وصل الى سوريا من الموصل، لتحقيق هدف توسيع خطوط دفاعاتها عن الرقة التي كان لديها قبل غزوة «داعش» لتدمر، عمقان في جوارها يهدّدانها ومرشّحان للبدء بمهاجمتها منها، وهما محورها الجنوبي انطلاقاً من قواعد الروس والنظام في تدمر في اتجاه السخنة خط دفاع «داعش» الاوّل عن الرقة على هذا المحور. والثاني محورها المفتوح على ريف حلب في اتجاه الرقة وتوجد فيه قوات «قَسَد» المدعومة اميركيّاً.
أمّا المحوران الآخران فهما آمنان، لأنّ غرب الرقة متوغّل بدير الزور المسيطر عليه من داعش، وشمالها توجَد فيه القوى الكردية في الحسكة التي تملي عليها مصالح اجندة الكرد العليا في سوريا، التوقّف عند حدودها الحالية.
وبإقفال «داعش» لمحور تدمر ـ السخنة ـ الرقة، تبقى جبهة وحيدة يمكنها تطوير هجوم منها ضد الرقة، وهي قوات «قسد» التي تدعمها واشنطن وتخشاها انقرة وتطرح في مقابلها نموذج «الجيش الحر» ضمن «درع الفرات»، وأيضاً لدى روسيا ملاحظات على استئثارها بحرب الرقة وتطرح في مقابلها إسناد هذه المهمة الى الجيش السوري انطلاقاً من مواقعه في «الطَبَقة».