ليس أسهل من لفظ كلمة "الأجهزة الأمنية" في السياسة اللبنانية، وليس أصعب من تحليل علاقاتها ببعضها البعض كما الداخلية والخارجية وليس أوجب من تهنئتها، فقد باتت هذه التهنئة جزءاً لا يتجزّأ من "البوليتيكال كورّكتْناس" اللبنانية.
رغم المعايير التقنية الرفيعة للصراع الذي تخوضه هذه الأجهزة ضد "الأصولية الجهادية المسلّحة" يظل سر النجاحات التي تحققها هو الوفاق السياسي الدولي الإقليمي على "تحييد" لبنان.
لكي نكون دقيقين على المستوى السياسي أرجو أن نلاحظ أن هذا الوفاق عملياً بدأ قليلاً قبل تشكيل حكومة تمام سلام وجاءت تركيبة الحكومة - في صعيدها المخابراتي - تعبيراً عن هذا التوافق الذي افتتح إنجازاته في طرابلس فغيّر وجبة أسنان المدينة من وجبة يهيمن عليها التطرف إلى وجبة انتعشت فيها، وهي المدينة المدينية العريقة، أسنان القوى المدنية السلمية فقامت بالقدر المتاح بتهدئة ميدانية لهواجس مخاطر الحرب الأهلية وبسيكولوجيتها على رؤية المدينة لنفسها وللآخرين.
كان آخر الضحايا محمد شطح السيئ الحظ، وأول الوفاقيين حكومة الرئيس تمام سلام.
دائماً في مواجهة الإرهاب الذي نعرف كان هناك إنجازات لـ"الأجهزة الأمنية"، ولكنها في أيام اللاهدنة الإقليمية الدولية في لبنان كان حروب إنجاز. الإنجاز ضد الإنجاز. السنوات الأخيرة ولَدتْ كفاءة أعلى من أي وقت سابق سِرُّها الاتحاد "السياسي" بين الأجهزة الأمنية، فبدأنا نشهد العجائب التي تستحق كل تهنئة. كما بدأت هذه الأجهزة، من اعتقال أحمد الأسير فصاعداً، تتلقى هدايا حسن نية من راعياتها الخارجية، وهذا طبيعي جداً في جو حسن الطالع الذي بات يخيِّم علينا في لبنان الهش.
لو كنتُ رجل أعمال لبدأتُ أي دراسة جدوى لمشروع ما أريدُ أن أقوم به من استشارة جهاز أمني قبل أي مستشار اقتصادي أو سياسي. فهناك قبل الاقتصاد أمن الاقتصاد وهو في بلد مثل لبنان، أمن يصنع الاقتصاد. لا يعزز الاقتصاد فقط كما كل البلدان بل يصنعه.
مجال واحد لا تزال الطبقة السياسية الموحدة المتناحرة لا تسمح به هو إنشاء جهاز أمني لمكافحة الفساد يكون برئاسة قاضً محترم ونيابة رئيس من ضابط كبير محترم. تحصل حالات تدخّل أمني في قضايا فساد كما نسمع ولكن ليس من ثقة بفعاليتها مثل الثقة بالفعالية الأمنية لـ"الأجهزة الأمنية" في المجال الأمني.
إنشاء جهاز موحّد برئاسة قاض لمكافحة الفساد هو الاقتراح الذي نرفعه إلى رئيس الجمهورية الجديد ميشال عون. ويكون، ضمن القانون تحت إشرافه. ليس المقصود أن يكون شبيهاً للتجربة التي حصلت في عهد الرئيس إميل لحود والتي تحولت إلى أداة، ليس بيده حتى، بل بيد ضباط المخابرات السورية لتطويع أخصامها الفاسدين وغير الفاسدين. أو يمكن، منعاً للحساسيات، أن ينشأ جهاز مستقل، وهذا أفضل مؤسساتياً في الديموقراطيات، إنما رئيس "الوصاية" هو رئيس الجمهورية.
أيضاً لدعم القوة المعنوية للجهاز الجديد يمكن اختيار، بالإضافة إلى الأمنيين، مجلس إدارة استشاري وله صلاحية المراقبة اللاحقة يضم شخصيات ذات سمعة نزيهة عموماً في الأوساط الحقوقية والأكاديمية والثقافية والاقتصادية ومن منظمات محترمة في "المجتمع المدني".
هناك أشكال مختلفة في العالم لمكافحة الفساد. طبعا التجارب الأهم ترتبط بمتانة النظام الديموقراطي وليس لدينا من مرجعية راسخة سوى النموذج الغربي بما فيه بعض الشرق آسيوي، الياباني والكوري والسينغافوري. إنما أيضا في دول العالم الثالث هناك تجارب جزئية يمكن تقييمها إيجاباً.
هذا ليس اقتراح جهاز قضائي. هذه مسألة مهمة، ولو كان برئاسة قاضٍ. بل هو جهاز أمني.
وهْم أم سذاجة جديدة أم سبر لبعدٍ لم "يجرّب" في الحياة العامة اللبنانية من حيث الدمج والفصل بين الـ...
تجربة ربما ستصبح تحت مرصد السفارات المعنية بمكافحة الفساد؟ وليس فقط المعنية بمكافحة الإرهاب؟