”نحن مشغولون في مكان آخر، لسنا مشغولين بأحد هنا“. هكذا رد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في كلمته قبل يومين على تقارير اعلامية عن مخاوف حارة حريك من التقارب بين معراب وبعبدا من جهة، وخلاف هذه الثنائية المسيحية مع حليفين للتنظيم هما رئيس مجلس النواب نبيه بري والنائب سليمان فرنجية، من جهة ثانية. ليست السياسة اللبنانية، ولا المناصب الحكومية، شغله الشاغل، ”وكلكم تعلمون هذا المكان الثاني الذي نحن مشغولون به … هو الذي يرسم مصير المنطقة ومستقبلها والأفق الكبير الذي تذهب إليه“. هو أشبه بالسلطان سليمان في مسلسل ”حريم السلطان“ التركي، يعود قصره بين المعارك ليتلهى بصغائر القصر وثرثراته. لا يهم اليوم إن فاوضت ”القوات اللبنانية“ للحصول على حقيبة خدماتية أساسية كالأشغال أو الصحة أو غيرها، وخاضت في سبيلها معارك مع حركة أمل وتيار المردة، لأن ذلك بات تفصيلاً.
في هذه المرحلة، إذا ضمن ”حزب الله“ موقفاً حكومياً يُغطي حربه في سوريا، فإن ذلك كاف لإرضائه لأن ديمومة السيطرة في لبنان، بوابتها استقرار النظام في دمشق. بعد استعادة النظام مناطق ريف دمشق وحلب وحمص، بات التحدي في معظم الشمال والشرق، مشتركاً مع التحالف الدولي، ويحظى بمباركته. واثر انتهاء المعارك الكبرى، قد تستعيد دمشق جزءاً من دورها في السياسة اللبنانية من بوابات عديدة. أولاً، النظام لاعب أساسي في ملف اللاجئين السوريين، وهو في صلب أولويات العهد الرئاسي الجديد. النظام يملك مفاتيح أي حل، ولو جزئي، لهذا الملف.
ثانياً، سيكون على الجيش اللبناني حسم معركة جرود البقاع الشمالي ضد ما تبقى من تنظيمي ”فتح الشام“ و”داعش“. ويتطلب مثل هذا المجهود العسكري دعماً جوياً وربما برياً من جيش النظام السوري.
وهذه معركة النظام السوري أيضاً، لارتباطها بخطة النظام للسيطرة الكاملة على ريف دمشق والحدود اللبنانية-السورية. لكنها أيضاً تُعيد التواصل الجغرافي والاقتصادي بين البلدين لمستوياته السابقة.
والاقتصاد هو البوابة الثالثة. واللافت هنا ما يصدر عن خصوم حزب الله، أكثر مما يخرج من فريقه السياسي. في سياق تبريره زيارة مفتي سوريا أحمد حسون إلى بعبدا، تساءل أحد نواب ”المستقبل“: ”هل يكون لبنان مشاهداً في وقت تشهد فيه سوريا مرحلة إعمار قادمة تُصرف فيها مئات مليارات الدولارات؟“. الإغراء بصفقات إعادة الإعمار ورقة سورية مهمة في صياغة سياسة المرحلة المقبلة.
وعلى ”حزب الله“، بصفته القوة المسلحة الأبرز في البلاد، الترفع أكثر عن السياسة والمناصب مع كل الفرقاء اللبنانيين، وإدارة الصراعات والمناكفات بينهم تماماً كما كان يفعل النظام السوري إبان حقبة الوصاية.
في هذا السياق، بإمكاننا فهم الغزل الأخير بين حزب الله والقوات اللبنانية. خرج الحزب عن خطاب الاتهام بالعمالة، ووصف القوات اللبنانية بأنها ”قوة أساسية سياسية موجودة في البلد ولها تمثيلها بمجلس النواب ولها أناسها ولها قواعدها“. ”القوات“ كانت تشترط خروج ”حزب الله“ من سوريا، قبل المشاركة بالحكومة، لكنها اليوم في موقع آخر. تدعم عهداً متحالفاً مع ”حزب الله“ والنظام السوري، ويستقبل كبار مسؤوليه، وستُشارك في حكومة مهمتها الأساسية تغطية الحرب في سوريا. مشكلة ”القوات“ في أنواع الحقائب لا مهمة الحكومة وموقفها من مشاركة طرف لبناني في حرب خارجية.
وهنا بيت القصيد. وبات بإمكان حزب الله التراجع بضع خطوات لإدارة هذا الصراع ”الصغير“ من دون القاء ثقله لدعم طرف ضد آخر. لكن لأي مدى سيذهب التقارب مع ”القوات اللبنانية“؟ بحكم شراكتها في العهد، تتجه القوات الى المزيد من التطبيع مع خصومها السابقين. في خطابه الأخير، وضع نصر الله الخطوط العريضة لمثل هذا التفاهم الضمني تحت شعار "كلنا سوا في لبنان“ في مواجهة مخطط الجماعات التكفيرية للسيطرة على العراق وسوريا.
ورغم أن ”حزب الله“، بصفته مشاركاً في تقرير مسار تاريخ المنطقة، يترفع عن صغائر السياسة اللبنانية، إلا أنها قد تُعطيه اليوم غطاءين مسيحيين بدلاً من واحد.