صديقي الطبيب (….)، يسألني بجدية: “هل لا زال لنا اي امل بمفاوضات من اجل الاجلاء؟”
الرجل داخل حلب، في حصار يضيق ويخنقهم، توقف الاطباء عن العمل، انتهت المواد الطبية، تكاد تنعدم امكانية تشغيل مولدات الكهرباء، اصبحت المستشفيات والمراكز الطبية اهدافا للطيران الروسي السوري المشترك، تدفق النازحون من مناطق سقطت خلال الايام الماضية الى منطقة تواجد صديقي، مما ارخى عبئا اضافيا على عملهم. ولكن قصف المستشفى الاخير في حي الكلاسة ادى الى التزامهم الملاجئ.
مستشفى الكلاسة تعرض للضرب بغاز الكلور، نتج عنه اكتر من اربعين اصابة، وفي الصباح التالي كانت قوات الدولة الاسلامية (داعش) تهاجم مدينة تدمر فتحيل الانظار عن حلب.
لم نعد نعرف بالضبط كم عدد السكان المحاصرين، ربما اكثر من مئتي الف من البشر. المدنيون يموتون، وكذلك المقاتلون، بينما تصل الصور المخيفة عن توقيف قوات النظام لعدد من المستسلمين، هذه الصور التي لا تشير الا الى الذل والمهانة والمصائر المجهولة لهؤلاء. بينما يعثر المقاتلون بين جثث قوات النظام السوري على جثث رفاق لهم كانوا بالامس القريب يقاتلون الى جانبهم، وفضلوا الذهاب الى قوات النظام مستسلمين، فاعيد الزج بهم في اتون المحرقة وماتوا يقاتلون رفاق الامس.
تصل تأكيدات بان مؤذن شاب قد استسلم فقتل، ثم تصل اخبار اخرى بانه حي “والحمد لله” في المعتقل يتعرض لصنوف التعذيب، الاف من البشر فقدوا، يستحيل متابعة حالات فردية، والدفاع المدني يطالب بمناطق اجلاء وبضمان امن عامليه ومتطوعيه بحال تم سحب السكان، بينما يتابع الروس والنظام السوري القصف بالطيران ودفع الاف المقاتلين لاقتحام بقايا المدينة المحاصرة.
ايرانيون، قوات نخبة حزب الله اللبناني، عراقيون، افغان، مرتزقة روس بخبرات قتالية عالية، شيشان، الاف من المقاتلين المشاة يغزون حلب، مئات يتعرضون للقتل، المدنيون يسمعون انباء عن انهيارات في الجبهات، ويفرون من حلب الشرقية الى مناطق حلب الشرقية المحاصرة ايضا، من داخل الحصار الى داخل الحصار، وتضيق رقعة الارض وتتكاثف الحيوات البشرية المعرضة للقتل.
الاف غادروا الى مناطق النظام، بل عشرات الالاف، ومثلهم الى مناطق الاكراد، ومن هنا وهناك يصل الحديث والمعلومات عن اعتقال مئات النسوة من قبل ميليشيات، واخذهن الى جهات مجهولة، البعض من الميليشيات يتحدث عن نساء مستعبدات كونهن من سبايا الحرب، السبايا هنا لسن بالمعنى الديني، هن مجرد رق جديد سيفترسه مقاتلون من الاكراد وميليشيات النظام.
كلما وقع المزيد من الضحايا يعلو الصراخ، تجتمع الدول الغربية والعربية، تنديد، ويعيدون الاجتماع ليعيدون التمديد، وكلما ارتفع صوت الضحايا المدنيون تتحرك قوات داعش، فتحتل تدمر، المدينة التي تحمل التاريخ والغاز والفوسفات، وتشكل قلقا للعالم، فيختفي صراخ الضحايا تحت اكوام من صراخ دولي ومحلي يحذر من مخاطر الارهاب.
تموت ام محمد وزوجها يجرها في شوارع حلب، هذه الشوارع الرطبة المبتلة بماء الشتاء، وبالبرد القارس، وهي على كرسيها المدولب، وزوجها بالكاد يمتلك من الطاقة ما يكفي ليحرك الكرسي، يبحث عن طبيب لزوجته المقعدة، وام محمد تنازع الموت العشر الاخير، يمر شبان بالكاد يلتفتون، اصبح الانقاذ من الموت والمساعدة على الحياة لا يساوي العناء المبذول، يتابع الشبان سيرهم الى موتهم.
تموت ام محمد امام عدسة مصور محلي. تنتهي مأساتها، وتتواصل مأساة زوجها.
صديقي الطبيب، كما اصدقاء اخرون يتنقلون او يحتمون في مكان ما.
ليس هذا ما اردناه، يقول صديقي، كنا نريد بلدا ووطنا، ودولة، لم نكن نريد ثورة اسلامية ولا جهاد، ولا ذقون، انصفنا يا فداء، انصفنا.
من ينصف من يا دكتور؟ الموت يحيط بنا من كل جهة، القتلة هم محرري الارض، وابطالها، ومقاومي الارهاب، واعداء الاستعمار، الاستعمار نفسه الذي دفع بكل شذاذ الافاق الى سوريا وركز الكاميرات عليهم.
كيف ننصف شعبنا يا دكتور؟ ابطال الارض هؤلاء، رجال الله من طرفي المقتلة، هم من حرر ارضنا من اسرائيل، وهم من يهددها كل حين، وحين يبتعدون عن خطط روسيا تقصفهم روسيا جهارا نهارا فيعودون صاغرين الى قتل المواطنين المسالمين، المواطنين الذين انتفضوا على حياة الذل، فمن ينصف من؟ وكيف؟
رجال الله الذين قاتلوا اسرائيل تحت امرة ولي فقيه، يقتلونكم اليوم تحت امرة ولي فقيه يأتمر باوامر روسيا التي تنسق بالكامل مع اسرائيل، وتفتح لها المجال الجوي بتنسيق مسبق لتحلق طائراتها وتقتل القتلة حين يوسعون قليلا من دوائر طموحاتهم، فمن سينصف من؟ ومن سيحرر من؟
في هذه الساعات، اخجل من الاتصال بباقي الاصدقاء، اصمت حين يسألني (صديقي) عما ينتظرهم، ثم لا البث ان اقول في نفسي: لو كنت سأموت فاريد ان اعلم انني سأموت، لا اريد العيش بالوهم. واخبر (صديقي) بانكم كأطباء ستكونون فريسة للاعتقال وللقتل بحال خرجتم من حلب الشرقية، وستكونون ضحايا القصف والمقتلة بحال بقيتم فيها، فاختر يا (صديقي)، لا احد يلتفت لموتكم.
قرب (صديقي) جمع من الاطباء، يشكرون الصراحة، ويصمتون.
فليمت كل من تجرأ على المطالبة بكرامته، وكل من طالب بحريته، وان لم تقتلكم قذائف الفسفور وغاز الكلور، وطلقات الداعين الى الحسين وعلي وفاطمة، ستقتلكم الوعود الكاذبة من اولئك الداعين الى محمد وعمر وابو بكر.
فليمت كل من طالب بعدالة على الارض، وكل من حلم باننا سنرتقي الى بلاد تستحق الحياة، والى شعوب تعيش وتزدهر.
من حلم يوما بالخروج من عباءة العبودية سيموت.
اصدقائي الاحب الى القلب في حلب المحاصرة، انتم السابقون وكلنا اللاحقون.