بعد حلب، معركة الرقّة، وهي طويلة، وإذا كانت حلب تقع عند تقاطع مصالح روسية – تركية – كردية، فإن الرقّة تطرح مسألة حسّاسة وخطيرة وهي: مَن سيسيطر على أراضي «داعش»؟. لكل شيء ثمنه. تركيا قد تكون أخذت ثمن حلب السيطرة على «الباب»، النقطة الحساسة استراتيجياً. إمساك تركيا بها ترجمته شرذمة «الكانتون» الكردي. في الرقة السؤال الكبير: مَن يمسك بها وبمحيطها، الروس أم الأميركيون؟ وكيف؟
أقوى من معركة الرقّة وأهم مسألة هي مستقبل سوريا كلها. حتى الآن يكاد مشروع «جزأرة» سوريا يكتمل. كل المدن التي يشكل شريطها من اللاذقية الى حمص فدمشق «سوريا المفيدة»، بيد النظام الأسدي، رغم ذلك فإن السؤال هو ماذا بعد؟
مجرد اعتماد الرئيس بشار الأسد مبدأ الانتصار العسكري فإن مستتبعاته الشعبية ستكون كارثية. لذلك من الصعب جداً تصور عودة الجزء الأكبر من النازحين خصوصاً الذين انتشروا في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية. معنى ذلك أن سوريا خسرت القسم الأكبر من كادراتها العلمية والمثقفة».
الأخطر، أن رأياً يسود حتى من المتعاطفين مع محور الأسد، «ان سوريا ستلقى مصيراً أسوأ من مصير ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، ومع عواقب أكثر خطورة».. معنى ذلك أن الانتصار العسكري لا يكفي لتحقيق انتصار سياسي وشعبي. ألمانيا قسّمت بين شرقية وغربية وبقيت هكذا أسيرة حائط برلين قرابة أربعة عقود وأكثر. سوريا فقدت في هذه الحرب سيادتها، وهي لن تستعيدها في المستقبل المنظور. ربما بعد نصف قرن على الأقل (يقال إن الاتفاق الروسي – الأسدي مدته نصف قرن). حالياً، ودون أن يكتمل هذا المشروع ـــــ الاتفاق، ماذا يحمل الغد؟ فإن الأسوأ بكثير قد حصل ويحصل. إن تغييراً ديموغرافياً قد حصل، ولن تعود الحال كما كانت، ليس فقط بسبب الخوف والحذر الشعبي والذكريات السوداء فقط وإنما أيضاً لأن النظام سيعمل أو يوافق على «زرع» جاليات جديدة أتت مع المقاتلين من الشيشانيين (الذين قاتلوا ويقاتلون مع الروس) والإيرانيين والأفغان والباكستانيين وبطبيعة الحال العراقيون. هذه الخسائر الانسانية ومن البشر تعادلها وتزيد عليها الخسائر في الحجر، التي لا يبدو في الأفق من سيساهم في إعادة إعمارها، خصوصاً أن روسيا وإيران تدفعان للحرب، لكن لم يعرف عنهما تمويلهما للبناء.
سوريا التي كانت تتباهى بأن سيادتها على كامل أراضيها فقدت هذه الخصوصية. سوريا ستكون بلا سيادة لعقود عديدة. باسم الحرب ضد «داعش» أو الحرب حتى «لا يكسر ضلع المقاومة الأساسي»، تتقاسمها أربع دول وحزب. القواعد العسكرية البرية والجوية لهذه الدول تقوم وتنتشر بسرعة الصوت. وبعيداً عن اختلاف أسماء القواعد تبعاً لقربها أو بعدها من هذه القرية أو المدينة فإن خريطتها واحدة وهي:
[ القواعد الروسية وهي:
[ قاعدة حميميم الجوية وهي حالياً الأضخم وتضم الى جانب طائرات السوخوي والميغ أكثر من ألفي جندي روسي ومجموعة صواريخ S-300 للدفاع الجوي.
[ قاعدة T-4 أو «تيفور« بالقرب من حمص وهي تضم أكبر مطار وحظائر جوية مع مستودعاتها القادرة على استيعاب 90 طائرة حربية.
[ قاعدة الشعيرات الجوية.
[ قاعدة طرطوس البحرية. التي يتم توسيعها يومياً.
ولا يعرف تحديداً عدد الجنود الذين يخدمون في هذه القواعد وفي المواقع القتالية لكن تشير المعلومات الى تراوح عدد هؤلاء الجنود و»المرتزقة» الى أكثر من عشرين ألف جندي. ولا شك أن اتفاقات حديدية قد وقّعها الأسد مع موسكو التي تعلمت من الماضي بأن لا تسمح للرئيس ( مثل انور السادات) أن يطردها في ليلة واحدة وبقرار رئاسي، وكأن شيئاً لم يجر طوال عقود.
أما الطارئون وهم الأميركيون فإنهم أقاموا في صمت وكتمان شديدين ست قواعد جوية حتى الآن وهم يستعدون لبناء سابعة ستكون أكبر قواعدهم الجوية في «عفرين» أما القواعد الست فهي:
[ مطار الرميلان (يبعد بضعة كيلومترات عن الحدود العراقية).
[ قاعدة «قرية المبروكة» غرب مدينة القامشلي وهي تضم أيضاً قوات خاصة أميركية.
[ قاعدة «خراب عشق» قرب معمل أسمنت «لافارج«.
[ مدينة «عين عيسى« وتعد كبرى القواعد الأميركية حتى الآن.
[ قاعدة عين العرب (كوباني) وتضم أيضاً 300 جندي أميركي.
[ قاعدة تل بيدر وهي كبيرة أيضاً.
ولا يبدو أن الأميركيين الذين يوزعون قواعدهم في المفاصل الأساسية لسوريا مع تركيا والعراق، ستغادر فور الانتهاء من معركة الرقة أو غيرها.
أما إيران فإنها عملت وتعمل منذ البداية على الامساك أو على الأقل الشراكة في القرار السياسي والأمني مع الأسد. الى جانب ذلك فإنها تعمل على تغييرات ديموغرافية لتعميق نشر «التشيع» وتثبيت ما هو قائم، وذلك بما عرف عن الإيرانيين من نفَس طويل في تعاملاتهم. لذلك لا تهتم حالياً في إقامة قواعد عسكرية طالما أن جميع القواعد السورية، مشتركة معها.
أما تركيا فإن طموحها حالياً هو الإمساك بمدينة «الباب» وهي ستمسكها وتتمسك بها بالاتفاق مع روسيا لكسر المشروع الكردي حتى لو كان الثمن ضمور دورها المستقبلي في سوريا.
يبقى أنه حتى «حزب الله» أصبح له قاعدة في سوريا وهي في مدينة «القصير» التي حوّلت الى مدرسة حربية ومركز للتدريب ونقطة قطع ووصل عسكرية للحدود اللبنانية – السورية.
ولا يبدو أنّ «حزب الله» وبالتضامن والتكافل مع إيران سيفكك قاعدة «القصير» غداً، لأنها أفضل مكان يقع تحت الحماية الروسية من إسرائيل مقابل اتفاقات مجهولة يتم التوصل إليها بالوكالة من الكفيل والضامن الروسي.
هذه الخريطة القابلة للتعديل أو للتمدد، تؤكد أمراً واحداً أن سوريا التي نعرفها جغرافياً وسياسياً قد انتهت، وان سوريا جديدة تتشكل على قواعد جديدة من المبكر الآن البناء عليها في المنطقة خصوصاً لبنان الى حين أن تتوضح ويتم تثبيت إحداثياتها نهائياً.