معركة حلب كانت ولا تزال حافلة بالرموز والدلالات . لكن إعتمادها قاعدة للحكم على مسار الحرب ومصير النظام ومستقبل الثورة في سوريا يحتاج الى الكثير من التروي . مآلاتها الراهنة تشكل منعطفا حاسما بالنسبة الى جميع أطرافها ،لكنها لا تمثل نهاية الطريق ، بل ربما بداية جديدة لخمس سنوات اخرى من العذاب والخراب.
الاجماع الحاصل بين الموالين والمعارضين على ان سقوط شرق حلب في يد النظام لن ينهي الحرب ، يموه النقاش الدولي المتواصل في الغرف المغلقة حول الحل السياسي ، وربما يسعى الى تعطيله. ثمة اعتراض سوري عام على فتح هذا النقاش الان، بوصفه عملا انتهازيا او اقصائيا او على الاقل سابقاً لأوانه. الظرف ليس مؤاتياً لطرفي الحرب من اجل الجلوس حول طاولة المفاوضات. هذا ما يشاع حاليا، وهذا هو الواقع فعلاً.
ليس من قبيل الصدفة ان يقرر الرئيس بشار الاسد ، في اعقاب التحول الاخير في معركة حلب، التحدث الى جمهوره من خلال صحيفة محلية، ويعلن انه لن يوقف القتال قبل تحرير بقية المدن والاراضي السورية ، ولكي يؤكد انه لن يعيد ملايين النازحين السوريين الى مساكنهم، لكي لا يخرقوا "الانسجام الاجتماعي" الذي باتت سوريا تنعم به.
وليس من قبيل الحكمة ان يلمح الاسد مجددا الى ان الحريق السوري يمكن ان يمتد الى لبنان، وان يطالب حليفه الرئيس ميشال عون بالاستعداد للتخلي عن اللاسياسة التي يعتمدها لبنان ، او سياسة النأي بالنفس، والبدء بالانخراط المباشر في الحرب السورية بشكل مختلف، وبما يتجاوز الحملات الامنية التي تشنها السلطات اللبنانية على المعارضين السوريين في لبنان، والتي تتخطى في بعض الاحيان تفكيك شبكات الارهاب الاسلامية.
انه خطاب النصر ولا شيء سواه. وقد سبق للاسد ان أطلق مثل هذا الخطاب اكثر من مرة طوال السنوات الخمس الماضية. لكنها المرة الاولى التي يبدو فيها الموقف متصلاً بالوقائع الميدانية التي أفرزها التدخل الجوي الروسي والتدخل البري الايراني في حلب وغيرها من مناطق التوتر السورية.. من دون ان يسقط من حسابه طبعا ً ان المعركة مستمرة وان القاء السلاح ما زال بحاجة الى المزيد من "التضحيات"الروسية والايرانية الكفيلة بتعديل موازين القوى العسكرية.
وليس من قبيل الصدفة ايضا ان تبدو المعارضة السورية وكأنها تلقت في معركة حلب ضربة مؤلمة كادت تفقدها توازنها وقدرتها على الحركة، بعدما حرمتها من صلتها بجمهورها الذي لم تستطع ان تحميه ، او ان توفر له البديل او حتى الملاذ الآمن.. مع ان المعركة بحد ذاتها يمكن ان تكون مناسبة لاسترداد تلك الصلة، وتنحية التنظيمات والشبكات الاسلامية جانباً وتحميلها المسؤولية الرئيسية عن الفشل في إدارة الصراع مع النظام، وعن تكوين إجماع دولي ينفر من المعارضين السوريين او لا يثق بهم.
من الصعب التكهن بطبيعة المراجعة التي تجريها المعارضة لمعركة حلب وبطبيعة القرارات التي ستتخذها لاكمال المواجهة. لكن استمرار التسامح مع التنظيمات والشبكات الاسلامية التي رسمت الصورة الأبشع والأسوأ للمعارضين السوريين، سيكون بمثابة وصفة للمزيد من الضياع، والفراغ الذي ستسده خلايا إسلامية أخطر من داعش والنصرة . الشتات يوفر قاعدة صلبة لاطلاق حركة سياسية أكثر جدية، تستفيد من تجارب حركات تحرير وطنية، وجدت نفسها في المنافي مع الملايين من مواطنيها المحرومين من حق العودة، والممنوعين من اكتساب هوية وجواز سفر.
هذا هو عنوان السنوات الخمس الباقية من ولاية الرئيس الاسد الثالثة، والتي يقال انها ستكون الاخيرة اذا ما نضجت المعارضة السورية وتبدلت وتطورت، واكتسبت شرعية عربية ودولية شبيهة بتلك التي حازتها في العامين 2014 و2015 .. تتحدى الروس والايرانييين الذين يخوضون اليوم حرباً ضارية من أجل نظام لا يشاركونه إحساسه المفرط بالنصر ، ولا بحتميته.