بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّدٍ، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، وأصحابه المنتَجَبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
تمهيد: فرحة الزهراء(عا) بمقتل الخليفة عمر
يقوم بعض المؤمنين(هداهم الله)؛ بسبب جهلهم بحقائق الأمور، وطرق الاستدلال العلميّ والشرعيّ، باتّخاذ اليوم التاسع من ربيع الأوّل عيداً ولائيّاً، ويومَ سرورٍ وابتهاج؛ بسبب مقتل الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب في هذا اليوم.
ويتناقلون في ذلك روايةً منسوبةً إلى الإمام العسكري(ع)، أنّ هذا اليوم يومُ عيدٍ، وهو أفضل الأعياد عند أهل البيت وعند مواليهم؛ ويروي(ع)، عن أبيه الهادي(ع)، أنّ الصحابيّ الجليل حذيفة بن اليمان دخل في مثل هذا اليوم، وهو اليوم التاسع من ربيع الأوّل، على رسول الله(ص)، فرأى أمير المؤمنين مع ولدَيْه(عم) يأكلون مع رسول الله(ص)، وهو يبتسم في وجوههم، ويقول لولدَيْه الحسن والحسين: كُلا، هنيئاً لكما ببركة هذا اليوم؛ فإنه اليوم الذي يُهلِك الله فيه عدوَّه وعدوَّ جدِّكما، ويستجيب فيه دعاء أمِّكما. كُلا؛ فإنه اليوم الذي يقبل الله فيه أعمال شيعتكما ومحبِّيكما…. كُلا؛ فإنه اليوم الذي تُكسَر فيه شوكة مُبْغِض جدِّكما…. كُلا؛ فإنه اليوم الذي يعمد الله فيه إلى ما عملوا من عملٍ فيجعله هباءً منثوراً…. ثمّ يُخبر النبيُّ(ص) عن الله تبارك وتعالى أنّه قال: يا محمد…، وأمرتُ الكرام الكاتبين أن يرفعوا القلم عن الخلق كلِّهم ثلاثة أيّامٍ من ذلك اليوم، لا يكتبون شيئاً من خطاياهم؛ كرامةً لك ولوصيِّك. ولأعتقنَّ من النار من كلِّ حَوْلٍ في مثل ذلك اليوم ألفاً من مواليكم وشيعتكم، ولأجعلنَّ سعيهم مشكوراً، وذنبهم مغفوراً، وأعمالهم مقبولة…. ثمّ دخل حذيفة على أمير المؤمنين عليٍّ(ع)، فذكَّره بهذا اليوم وفضله، فقال حذيفة: يا أمير المؤمنين، أُحبُّ أن تسمعني أسماء هذا اليوم، فقال(ع): هذا يوم الاستراحة…، ويوم ظفر بني إسرائيل…، ويوم الوقت المعلوم…، ويوم المفاخرة…، ويوم إذاعة السرّ…، الحديث([1]).
وبما أنّ هذه الظاهرة آخذةٌ في الانتشار، وتساعد على إذكاء نار الفتنة بين المسلمين، وبثِّ روح العداء والفُرْقة في أوساطهم، وتتضمَّن كَذِباً وافتراءً على الله عزَّ وجلَّ، ورسوله(ص)، وأهل البيت(عم)، كان لا بُدَّ من وقفةٍ أمامها، فنقول:
مصادر الرواية
المصدر الأوّل
رواية السيد عليّ بن عليّ بن موسى بن طاووس (نجل السيد ابن طاووس المشهور) في كتاب (زوائد الفوائد)، عن خطّ محمد بن عليّ بن محمد بن طيّ([2])، أي إنّه وجدها في كتابٍ.
وينسب المجلسي إلى السيد عليّ بن عليّ بن موسى بن طاووس قوله: «ووجدنا في ما تصفَّحنا من الكتب عدّة رواياتٍ موافقةً لها، فاعتمدنا عليها»([3]).
نقدٌ وتعليق
وبما أنّ كتاب (زوائد الفوائد) ليس بأيدينا اليوم، فنحن مضطرّون للاعتماد على ما نقله العلاّمة المجلسي في شأن هذه الرواية.
إذن فهذه الرواية من طريق ابن طاووس مبتلاةٌ بفقدان السند؛ إذ لم يُذكَر، وبالتالي لا يمكن تقييمه من الناحية الرجاليّة.
وأمّا الروايات التي تصفَّحها ابنُ طاووس في الكتب، واعتبرها موافقةً لهذه الرواية، فلم ينقلها لنا أحدٌ من العلماء. وهذا النقل المجمل من ابن طاووس لوجودها ودلالتها لا يغني في العِلْم شيئاً. وبالتالي لا يمكن الاعتماد على مجرَّد قوله المتقدِّم.
المصدر الثاني
رواية الشيخ عزِّ الدين الحسن بن سليمان بن محمد بن خالد الحلّي(حيٌّ سنة 802هـ)، في كتابه «المحتضر»، فقال: «ما رُوي في فضل يوم التاسع من ربيع الأوّل: ما نقله الشيخ الفاضل عليّ بن مظاهر الواسطي، عن محمد بن العلاء الهمداني الواسطي ويحيى بن جريح البغدادي»([4])، عن أحمد بن إسحاق القمّي صاحب العسكر، عن مولانا أبي الحسن عليّ بن محمد العسكري ـ أي الإمام الهادي(ع).
وهذه الرواية من طريق الحسن بن سليمان الحلّي هي القابلة للدراسة والتحقيق، فنقول:
قال العلاّمة المجلسي: «قال الشيخ حسن [ويعني به الحسن بن سليمان الحلّي، صاحب المحتضر]: نقلتُه من خطّ الشيخ الفقيه عليّ بن مظاهر الواسطي، بإسنادٍ متّصلٍ، عن محمد بن العلاء الهمداني الواسطي ويحيى بن محمد بن جريح البغدادي، قالا: تنازعنا في ابن الخطّاب، فاشتبه علينا أمره، فقصدنا جميعاً أحمد بن إسحاق القمّي، صاحب أبي الحسن العسكري(ع)…، الحديث»([5]).
ولم يذكر صاحب البحار تتمّة السند، أي سلسلة الرواة بين ابن مظاهر الواسطي وابن العلاء الهمداني.
وقفةٌ مع سند الرواية
أمّا الحسن بن سليمان الحلّي(802هـ) فقد وصفه الحُرّ العاملي بـ «فاضل عالم فقيه»([6]).
وعليّ بن مظاهر(القرن8هـ) هو «الشيخ الفقيه الفاضل»([7]).
ومحمد بن العلاء الهمداني الواسطي(248هـ)، المعروف بـ (أبي كريب الكوفي)، لم يذكره الرجاليّون([8])، ما يعني أنّه مهمَلٌ عند علماء الرجال الشيعة. وبالعودة إلى كتب علماء الرجال السنّة تبيَّن أنّهم وثَّقوه، ووصفوه بـ «صدوق»([9]).
ويحيى بن جريح البغدادي لم يذكره علماء الرجال الشيعة([10])، فهو مهمَلٌ عندهم. ولم أجِدْ مَنْ تعرَّض له من علماء الرجال السنّة. غير أنّ عدم ثبوت وثاقة هذا الراوي لا تضرّ في المقام؛ لكونه متابَعاً في هذا الحديث من قبل محمد بن العلاء الهمداني الواسطي، وقد وثَّقه علماء الرجال السنَّة. اللهُمَّ إلاّ أن نرفض الأخذ بتوثيقهم بالمطلق، فيكون هذان الرجلان مهملان، ولا تثبت وثاقتهما.
وأحمد بن إسحاق القمّي هو ابن عبد الله بن سعد بن مالك بن الأحوص الأشعري، أبو عليّ القمّي. قال النجاشي: «…كان وافد القمّيين، وروى عن أبي جعفر الثاني وأبي الحسن(عما)، وكان خاصّة أبي محمد(ع)»([11]). ونقل الكشّي ما يفيد وثاقته([12]). وقال الطوسي: «…قمّي، ثقة»([13]). إذن هو ثقةٌ جليل.
غير أنّ مشكلة السند الحقيقيّة تكمن في السند الساقط بين عليّ بن مظاهر الواسطي ومحمد بن العلاء الهمداني الواسطي؛ إذ يفصل بينهما ما لا يقلّ عن خمسة قرون، فالسند الساقط يتكوَّن في أقلّ تقدير من خمسة رجال. وهذا إعضالٌ كبير ـ وهو سقوط أكثر من راوٍ متتالٍ من السند ـ، لا يمكن التغاضي عنه بحالٍ. ونحن لا نعرف شيئاً عن حال هؤلاء الرجال.
وقد ذكرنا في ما تقدَّم أنّ الحسن بن سليمان الحلي(حيٌّ سنة 802هـ) قال في كتابه «المحتضر»: «ما رُوي في فضل يوم التاسع من ربيع الأوّل: ما نقله الشيخ الفاضل عليّ بن مظاهر الواسطي، عن محمد بن العلاء الهمداني الواسطي ويحيى بن جريح البغدادي». ويبدو من عبارته أنّ عليّ بن مظاهر الواسطي نقلها عن محمد بن العلاء الهمداني مباشرةً، ولم يُشِر إلى أنّ هناك سنداً بينهما. ويكون ذلك من باب التدليس في الإسناد.
فالعجبُ من العلاّمة المجلسي كيف يقول: «قال الشيخ حسن: نقلتُه من خطّ الشيخ الفقيه عليّ بن مظاهر الواسطي، بإسنادٍ متّصل»([14])! ورُبَما يكون ذلك لاختلاف النسخة التي بأيدينا عن النسخة التي كانت بين يدَيْه(ر).
وعلى أيّ حال لا شَكَّ في سقوط غير واحدٍ من الرواة من هذا السند، ولا نعرف عن حالهم شيئاً، فلا تثبت وثاقتهم.
إذن هذه الرواية ضعيفة السند؛ للإعضال، وبالتالي لا تثبت وثاقة جميع رواتها.
وإذا لم نأخذ بتوثيق علماء الرجال السنَّة لمحمد بن العلاء الهمداني الواسطي فيكون السند ضعيفاً أيضاً لعدم ثبوت وثاقة كلٍّ من: هذا الراوي، ومتابِعه يحيى بن جريح البغدادي.
وقفةٌ مع المضمون
هذا، وفي بعض فقرات هذا الحديث نقاشٌ وتأمُّل:
1ـ إنّ هذا اليوم هو «أفضل الأعياد عند أهل البيت وعند مواليهم».
وهذا مخالفٌ لما رُوي أنّ أفضل أعياد المسلمين هو يوم الغدير([15])، وهو اليوم الذي نصَّب فيه النبيّ(ص) أمير المؤمنين عليّاً وليّاً وإماماً ووصيّاً وخليفةً من بعده.
2ـ «فإنه اليوم الذي فيه يقبل الله أعمال شيعتكما ومحبِّيكما».
أهكذا تُقبَل الأعمال على الإطلاق؟! وأين هذا الكلام من قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ﴾ (المائدة: 27)؟!
3ـ «فإنه اليوم الذي تُكسَر فيه شوكة مبغض جدِّكما».
وهل كُسرَتْ بالفعل شوكة الظلم والعدوان؟! أَوَلم يستمرّ الظلم والاضطهاد بحقِّ أهل البيت(عم) مع الخليفة الثالث، ومَنْ وتابعه بعد ذلك، وصولاً إلى دولة بني أميّة، فدولة بني العبّاس؟!
4ـ «فإنه اليوم الذي يعمد الله فيه إلى ما عملوا من عملٍ فيجعله هباءً منثوراً».
وهل صار غَصْبُهم وظلمُهم هباءً منثوراً؟! وهل سقطت كلُّ مؤامراتهم ومكائدهم ضدّ أهل البيت(عم)؟!
5ـ «وأمرتُ الكرام الكاتبين أن يرفعوا القلم عن الخلق كلِّهم ثلاثة أيّامٍ من ذلك اليوم، لا يكتبون شيئاً من خطاياهم؛ كرامةً لك ولوصيِّك».
وهل يمكن لمسلمٍ يؤمن بيوم الحساب أن يتصوَّر ارتفاع القلم عن الخلق كلِّهم لمدّة ثلاثة أيّامٍ، يرتكبون فيها ما شاؤوا من المعاصي، فلا تُسجَّل عليهم؟! ما سمعنا بهذا في مجالس العِلْم والفَضْل أبداً، وإنَّما هي نقنقاتٌ تصدر في جلساتٍ لا يُحْرَز فيها رضا الله تعالى، بل هي إلى سخطه ونقمته أقرب.
6ـ «ولأعتقنَّ من النار من كلِّ حَوْلٍ في مثل ذلك اليوم ألفاً من مواليكم وشيعتكم، ولأجعلنَّ سعيهم مشكوراً، وذنبهم مغفوراً، وأعمالهم مقبولة».
أهكذا يتمّ العتق من النار، من دون توبةٍ نصوح، ولا عملٍ صالح؟! أهكذا تُغفَر الذنوب، وتُقبَل الأعمال؛ لبركة يومٍ، ولأجل مقتل شخصٍ؟! «هيهات، لا يُخْدَع الله عن جنَّته، ولا تُنال مرضاتُه إلاّ بطاعته»([16]).
7ـ «قال حذيفة: فقلتُ: يا أمير المؤمنين، أحبّ أن تسمعني أسماء هذا اليوم، فقال(ع): هذا يوم…، ويوم ظَفَر بني إسرائيل».
وما هي علاقة بني إسرائيل بهذا اليوم؟! وأيُّ ظَفَرٍ لهم فيه؟!
8ـ «ويوم الوقت المعلوم».
وما هو يوم الوقت المعلوم؟! إنّنا نقرأ عن يوم الوقت المعلوم في كتاب الله المجيد، حيث يحدِّثنا تبارك وتعالى عمّا جرى من حوارٍ مع الشيطان الرجيم: ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنْ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾ (الحجر: 36 ـ 38؛ ص: 79 ـ 81). وبقرينة حديثه جلَّ وعلا عن ذاك الحوار نفسه في موردٍ آخر: ﴿قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ﴾ (الأعراف: 14 ـ 15)؛ وحيث لم يذكر يوماً آخر غير الذي طلب الشيطان الإنظار إليه، وهو (يوم يبعثون)، يكون (يوم الوقت المعلوم) هو (يوم يُبعثون).
فهل هناك يومان للوقت المعلوم: يوم مقتل الخليفة الثاني؛ ويوم انتهاء مهلة إبليس؟! أم أنّ هذه الرواية تفيد أنّ الشيطان اجتُثَّ من الوجود بمقتل الخليفة الثاني؟!
وهل يصدِّق أحدٌ مثلَ هذا الكلام ووساوس الشيطان تعتري الإنسان في كلّ حينٍ، ومن كلِّ حَدْبٍ وصَوْبٍ؟!
9ـ «ويوم المفاخرة».
وهل من شأن أهل البيت(عم)، أو شيعتهم، المفاخرة؟! ولا سيَّما في القتل وإزهاق النفوس. وهل سيفاخرون بشيءٍ لم يرتكبوه هم، وليست لهم أيُّ علاقةٍ به؟!
10ـ «ويوم إذاعة السرّ».
أيُّ سرٍّ سوف يُذاع في هذا اليوم؟! وهل أُذيع السرُّ بالفعل؟! أَوَكان خافياً على الناس فضلُ أهل البيت(عم)، أو مظلوميّتُهم، أو أحقِّيتُهم، حتّى تكون إذاعة ذلك كلِّه في ذلك اليوم؟!
وبعد هذا الكمِّ من المخالفات والمغالطات والغرائب في مضمون الرواية ـ مضافاً إلى ضعف السند بالإعضال ـ نكاد نقطع بأنّها من الموضوعات على لسان أهل البيت(عم)، وأصحاب النبيّ(ص)، ويريد بها واضعوها أن يشوِّهوا صورة أهل البيت(عم)، وشيعتهم، وإظهارهم بمظهر الشامت الحاقد، وحاشاهم أن يكونوا كذلك.
حذارِ حذارِ
أيُّها الأحبّة، هناك ـ قديماً وحديثاً ـ مَنْ يحاول أن يوقع بين المسلمين بمثل هذه التُّرَّهات، التي لا نشكّ في كذبها ووضعها.
فالحَذَر الحَذَر، عباد الله، من هؤلاء المنحرفين، وأضاليلهم وأراجيفهم، فإنّها كَذِبٌ وافتراءٌ على الله جلَّ وعلا، ورسوله(ص)، وأهل بيته(عم)، وفي ذلك كلِّه سخطُ الله وغضبُه وعقابُه.
نعوذ بالله من سخطه، ونعوذ به من شرِّ أنفسنا الأمّارة بالسوء إلاّ ما رحم ربُّنا. اللهُمَّ عفوك عفوك عفوك. ﴿وقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُم وَرَسُولُه وَالمُؤْمِنُون﴾، ﴿وَسَيْعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾، ﴿وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾. وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالَمين.
الشيخ محمد عباس دهيني