يتمّ عمر عهد الرئيس ميشال عون اليوم، أربعين يوماً. هي مدة تكاد لا تقاس من ولاية الست سنوات، لكن كانت ولادة بامتياز لمجموعة من المشكلات ومحطات سوء التفاهم واللا ثقة والتفاصيل الخلافية الشكلية والجوهرية، تراكمت كلها وعلى دفعات متتالية خلال أربعين يوماً، وجعلت البعض يعتقد وكأنّ العهد الرئاسي في سنته الثالثة او الرابعة او الخامسة او السادسة. فإذا كانت هذه الفترة القصيرة قد ظَهّرت كل هذه الامور وفي غضون ايام قليلة، فماذا عن الفترة المقبلة؟ وكم سيتراكم من ملفات وتناقضات في الخمس سنوات و325 يوماً المتبقية من عمر الولاية الرئاسية؟ماذا حصل في الأربعين يوماً؟
تحت عنوان التعاون بين القوى السياسية على اختلاف توجّهاتها، جاء انتخاب عون في 31 تشرين الأول. وعلى قاعدة مدّ اليد بُني خطاب القسم. لكنّ المسار الذي سلكه تأليف الحكومة، كشف ورقة التوت التي كانت تغطي المستور، وظهّرت الى السطح كل ما هو خلافي:
- ظهور عون ومعه «التيار الوطني الحر»، بأنه يقف على حافّة تحالفات مع متناقضات لا تلتقي، بل لا تثق ببعضها البعض وتخاف من بعضها البعض وتشكّك في بعضها البعض. وإن قدّر لها تحارب بعضها البعض.
وامام هذا الواقع رُسمت علامات استفهام في مختلف الاوساط حول كيفية الادارة العونية لهذه التحالفات، وهل في مقدوره أن يوائم في ما بينها وهل في مقدوره الوقوف على مسافة واحدة معها كلها في وقت واحد وكيف؟
وهناك من سأل في بعبدا: «في القرارات الاساسية والكبيرة، كيف سيصوّت وزراء «التيار الوطني الحر» وتكتل «التغيير والإصلاح»؟ هل سيراعون التفاهم مع «حزب الله»، أم سيراعون إعلان النوايا مع «القوات»، ام التفاهم الرئاسي مع تيار «المستقبل»؟ أمّا الجواب فكان: لا جواب».
- بروز أداء سياسي شَكّل عامل قلق لدى شريحة واسعة من القوى السياسية، ارتابت أولاً من العلاقة السياسية المستجدة بين «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية»، ودخلت مدار القلق الشديد جرّاء تعمّد بعض أطراف هذا التحالف الثلاثي الذي يضم «التيار الحر» و«القوات» و»المستقبل»، تقديمه كفرصة ثمينة لتحقيق مفاعيل مستقبلية سياسية وانتخابية، ليس فقط مفاعيل احتوائية للشارع المسيحي، وحصره بالثنائي العوني والقواتي، بل أبعد من ذلك ليتصل بتعديل الخريطة السياسية أو نسفها بشكل عام. وعلى رغم أنّ العهد نأى بنفسه عن هذا المنحى، وثمة توضيحات وتطمينات ورَدت في اتجاه القلقين، لكنّ القلق ما زال موجوداً.
علماً أنّ هناك من سأل: اذا كان الهدف الاحتوائي الاقصائي غير موجود أصلاً، فما معنى الحديث عن تحالف بهذا الهدف؟ وهل هذا النوع من الكلام يخدم العهد أم أنه يُضرّه ويزرع الشك حوله من الحلفاء قبل الخصوم؟
وارتابت ثانياً من اللغة الفوقية، التي تدحرجت من بعض الزوايا القريبة من بعبدا، ومن الأداء الذي اتّبع منذ انطلاق عجلة التأليف سواء في
تفضيل فريق على فريق، او الاستنسابية في توزيع الحقائب الوزارية، او الكرم الزائد على فريق والمَنّ عليه بحقائب بالجملة، والبخل الزائد في حجب هذه الحقائب عن فريق آخر وحرمانه حتى من حق التمثيل.
من خلال كل ذلك إستشعرَت هذه القوى بوجود منحى إلغائي وإقصائي وتحجيمي لبعض القوى، وبوجود تفاهمات ضمنية مسبقة ومقلقة، حتى لمن يصنَّفون في خانة الأصدقاء للعهد.
وما زاد الريبة هو ما بلغ حلفاء النائب سليمان فرنجية عن محاولات تجري من الآن لنسج «تحالف» عوني قواتي تحديداً، لمواجهة فرنجية في الشمال وتحجيمه حتى في عقر داره، زغرتا.
هناك أسئلة واستفسارات طُرحت، وثمة توضيحات وتطمينات أرسلت في غير اتجاه: «هناك مبالغات وتخيّلات. المهم أننا كما كنّا قبل الانتخاب سنبقى بعد الانتخاب»... لكنها على رغم هذه التوضيحات والتطمينات ما زالت الهواجس موجودة.
- العلاقة بين بعبدا وعين التينة، وبدل أن تلفحها نسمات التعاون والتقارب، ظلّت محكومة ببرودة وفتور إن لم يكن قد زادت اكثر، مع انّ رئيس المجلس النيابي نبيه برّي قرّر أن يتجاوز لحظة الانتخاب على اعتبارها صفحة وطويت، والانتقال بالتالي الى ما يؤسّس لانطلاقة فاعلة للعهد الرئاسي الجديد عنوانها الشراكة الكاملة للجميع، والذهاب الى ما يجمع ولا يفرّق، والاساس قانون جديد للانتخابات النيابية يعمّق هذه الشراكة ويوسّع دائرة التمثيل لتشمل كل المكونات بالعدل، ويدفن بالتالي قانون الستين الى غير رجعة. باعتباره صار مرذولاً من كل المكونات السياسية والروحية، تبعاً للمواقف التي ما زالت تتوالى رفضاً له.
- العلاقة بين بعبدا وبنشعي صارت أكثر من مقطوعة، وسَلكَ التعاطي مع فرنجية منحى اشتمَّت منه رائحة انتقامية، أولاً برفض إشراكه في الحكومة. هنا قيل لـ«مناوئي» فرنجية: «إنّ هذا الامر مرفوض، مشاركتنا في الحكومة متوقفة على مشاركته او مربوطة بمشاركته».
فتراجعوا على مضض، وقبلوا بإشراكه إنما ليس من ضمن الحصة المسيحية.
وهنا قيل لـ«المناوئين»: «أليس فرنجية مسيحياً، نرفض إهانة الرجل، ومن العيب التعاطي مع هذا الرجل بهذه الطريقة، وتصويره وكأنّه فاقد للشخصية المسيحية وبلا هوية مسيحية، أو التعامل معه وكأنّ هناك مسيحياً إبن ست ومسيحياً إبن جارية.
هو ابن بيت سياسي عريق بوطنيته ومسيحيته، بل هو مسيحي كامل المواصفات جملة وتفصيلاً، لا بل قد يكون أكثر مسيحية من بعض الآخرين. وبالتالي، لا احد يستطيع أن يُزايد عليه في مسيحيّته أو أن ينتزعها منه، او يقلّل من شأنها وقيمتها. وعلى هذا الأساس ينبغي أن يتم تمثيله في الحكومة من ضمن الحصة المسيحية وليس من ضمن أي حصة أخرى».
قيل إنّ هذا الأمر حُسم لناحية تمثيل فرنجية من الحصة المسيحية، ولكن بحقيبة عادية. وبعض المعنيين بالتأليف سعوا الى إقناع فرنجية بالقبول بهذه الحقيبة: «نتمنى عليك أن تقبل بذلك، الحكومة عمرها قصير فقط بضعة اشهر، والمهم أن تكون في الحكومة لا خارجها».
وبطبيعة الحال رفض فرنجية وأصرّ على الحقيبة الاساسية. وهنا قيل لـ«المناوئين» أيضاً: «لا نقبل أبداً بالإساءة الى هذا الرجل، فقد كان في لحظة معينة رئيساً للجمهورية ولكن مع وقف التنفيذ، ومع ذلك وقف معنا ضد مصلحته، ونزل عند خاطرنا ورفض مرّتين أن ينزل الى جلسة الانتخاب في مجلس النواب، كان يمكن أن تكرّسه رئيساً فعلياً للجمهورية. لذلك يجب أن يكون معلوماً أنّ مشاركته أساسية، وبحقيبة أساسية».
وحتى الآن، وعلى رغم كلّ التعابير الانشائية والكلام الجميل والمنمّق الذي يُقال على مسمع رئيس تيار «المردة»، لم يبتّ بهذا الامر نهائياً بعد، وما زالت عملية الأرجحة مستمرة حتى الآن؛ وعدٌ من هنا، إخلالٌ به من هناك، وهكذا على هذا المنوال، من دون أن ترسو الامور على صورة واضحة ونهائية حتى الآن. علماً أنّ هناك فرصة لتوضيح الصورة أتاحَها اللقاء الاخير بين فرنجية والرئيس سعد الحريري، ويفترض ألّا يستغرق ذلك وقتاً طويلاً.
تحدّث فرنجية صراحة عن محاولة تحجيم، وليست خافية هنا رغبة رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع في تحقيق هذا الهدف، لا بل إنّ هناك من يؤكد أنّ تأييده لترشيح عون ما كان إلّا لقطع طريق الرئاسة على فرنجية. كما ليس خافياً أنّ «التيار الوطني الحر» ما زال تحت تأثير تقديم فرنجية نفسه مرشحاً للرئاسة في وجه عون، وبالتالي محاولة التحجيم هذه ليست بمفعول رجعي بقدر ما هي بمفعول مستقبلي القَصد منه إزاحة فرنجية من الطريق سواء من امام جعجع الذي تبقى الرئاسة هدفاً حاضراً ومستقبلياً لديه، وكذلك من امام من هو راغب أو تتملّكه طموحات كبرى من داخل «التيار الوطني الحر»، للدخول الى الجنة الرئاسية، خصوصاً أنّ الساعين الى التحجيم يعلمون أنّ فرنجية يشكّل اليوم في نظر حلفائه، وخصوصاً أولئك الذين يمتلكون القوة، ولعبوا الدور الاساس في ايصال عون الى رئاسة الجمهورية، المرشّح الطبيعي والقوي للولاية الرئاسية المقبلة.
امام هذه الصورة، يقول سياسي بارز: «لا اعتقد أنّ الأبواب مقفلة بالكامل، كما لا توجد استحالة في إعادة جسر العلاقة بين بعبدا وبنشعي. وكما لا صداقة دائمة في السياسة فلا خصومة دائمة.
ولكن في حالة عون وفرنجية، هناك اكثر من سوء تفاهم، ولكنّ الخبثاء والدهاة ومحرّكي السياسة في الغرف المظلمة استطاعوا أن يشقّوا عُرى العلاقة بينهما كلّ لغايته او هدفه أو تِبعاً لطموحه الرئاسي سواء من الأقربين او الأبعدين.
لذلك، البيان الرئاسي الاخير ودعوة رئيس الجمهورية للسياسيين للقائه مباشرة وإيداعه هواجسهم، خطوة مهمة والمقصود فيها فرنجية، ولكنّها لم تقنعه، بما يُبقي الكرة تلقائياً في ملعب رئيس الجمهورية.
فالرئيس هو الحكم، هكذا يقول الدستور، وهو الراعي، وهو الذي لا يستطيع أن يعتمد سوى منطق التوازن. إلّا إذا كان هناك من يرغب ويسعى لأن تكون الطرفية سِمة من سِمات العهد، فهنا كلام آخر».