جاء في البيان الصادر عن اجتماع كتلة نوّاب حزب الله في البرلمان اللبناني، في الأول من ديسمبر/ كانون الأوّل الجاري، أنّ "ما تقوم به الجماعات التكفيرية المهزومة في الموصل وفي شرق حلب، من أعمال قتل وحصار للمدنيين واتخاذهم دروعاً بشرية، يظهر طبيعتها الوحشية وحقيقة مشروعها التدميري، الذي تنامى بفعل سياسات الدعم من رعاتها الدوليين والإقليميين. إن القضاء على هذه الجماعات ووقف الدعم الخارجي لها هو المدخل الضروري لاستقرار العراق من جهة، ولإنهاء معاناة المدنيين والولوج الى الحل السياسي في سورية من جهة أخرى".
اشتُهرت قيادة حزب الله بأنّها دومًا تردف كلامها بالأفعال. هذه المرّة، أرسلت خمسة آلاف من مقاتليها إلى حلب لقتل كل "التكفيريين" هناك حتى آخر طفل ورضيع وامرأة. لكن، على نقيض ما تعتقده أغلبية اللبنانيين المصابين بفقدان الذاكرة الجمعية، فإنّ ما يقوم به الحزب قيادةً وأفرادًا من مشاركة علنية في جرائم حرب وإبادة جماعية موصوفة من قصف وتقتيل للمدنيين في الأمة العربيّة، ليس أمراً غريباً على تاريخ لبنان لمن يعرف هذا التاريخ من الداخل. ما يحدث اليوم ليس إلا استكمالاً لما بدأه نموذج قديم جدًا هو نموذج "اللبناني المجرم"، قاتل "الآخر" على أسسٍ طائفية الذي أبدع فكرة القتل على الهويّة (وبراءة الاختراع تذهب هنا تحديدًا إلى بشير الجميّل) مذ تأسيس لبنان بالمعنى الاجتماعي-السياسي. حزب الله، على خصوصيّته التاريخيّة والمذهبية والإقليمية، لا يعدو كونه استكمالاً تطّوّرياً لمليشياويي الحروب الأهلية اللبنانيّة، لكن بنسخة محدَّثة إيرانيًّا. والمليشياوي الذي كان يقتل اللبنانيين الآخرين كلّ الوقت، أصبح اليوم يقتل، معظم الموقت، غير اللبنانيين من العرب، ومن "السنّة" خصوصًا.
ولاستعادة ما تعنيه دمويّة هذا النموذج، يفيد ما رواه لي لبناني مسلم، راحت أمّه ضحيّة مجزرة رهيبة في يوليو/ تمّوز من عام 1976 في شكّا (شمال لبنان). في تلك المجزرة، قتلت أمّه (المسلمة) فقط لأنّه صودف أنهم يعيشون في منطقة ستُعتبر "كتائبيّة" ذات أغلبية مسيحيّة.
كان المجرمون مليشيات تابعة للفصائل الفلسطينيّة، وما عرف حينها بفصائل "اليسار اللبناني" المتحالفة معها. كان هؤلاء يحاربون مليشيا حزب الكتائب وباقي مليشيات ما عرف باليمين اللبناني المنضوية معًا تحت تسمية "الجبهة اللبنانية". حين بلغه خبر المجزرة، عاد الشاب الذي كان يمشي مذهولًا بين الناس المقتولين. رأى، فيما رأى، عَروسًا في جهازها مفسوخة إلى قسمين أمامه. كانت هناك أمّ مقتولة وطفل بيدها يبكي. "فكّرت في نفسي أنني ربّما لو أخذت هذا الطفل وربيّته للحقني أجر. كان هذا الشيء الوحيد الذي خطر لي، وأنا أرى الجثث حولي. قلت للمقاتل الذي كان يقف أمام الجثّة (اسمح لي أن آخذ هذا الولد). فجاوبني بعنف "أيّ ولد؟". قلت له مشيرًا إلى الطفل أمامي (أكيد أنت لديك عائلة وأولاد وتخاف ربّك. دعني آخذه يلحقك أجر). إذ ذاك انتفض المقاتل وصرخ :(ليس لدينا أولاد هنا. هذا الطفل دمّه كتائبي). وقام بتفريغ رشاشه في الطفل أمامي. تكرّرت هذه الصورة مثلها وأبشع في كلّ المجازر الطائفية التي افتعلها اللبنانيون بحقّ بعضهم، ومن جميع الأطراف. والآن، يُستكمل هذا التقليد اللبناني العريق في أجساد الأطفال والنساء "التكفيريين" من حلب حتى الموصل، حيث فاق هذا "اللبناني المجرم" بأهمّيته صادرات بلاد الأرز الثقافيّة من التبّولة والشنكليش.
النموذج الثاني الساحق انتشاره شعبيًّا هو نموذج اللبناني الصامت عمّا يحدث، إما عن لا مبالاة أو عن جبن أو عن مزيج من الشعورين. يحدث أن يكون الشعور الغالب هنا الشماتة، حين يقول "لكن هل قليل ما فعلوه بنا؟ (يقصد الشعب السوري وهو هنا يدمجهم بارتكابات نظامهم الفاشي)، لكن الله يسلّط على الظالم من هو أظلم منه". يحل هذا الموقف الوضيع والرجعي التافه قائله من أيّة مسؤولية عما يحدث. ينسى هذا "الجبان اللبناني" الشامت بالمجازر التي تقترفها الفاشيّة السوريّة وحلفاؤها بحقّ الأبرياء، أنّ هناك ظالمًا لبنانيًّا هو حزب الله يشارك في المجزرة، وأنّه تبعًا للمنطق المريض هذا، فإنّه في يوم، إذا ما قُتل هو أو أبناؤه على يد آخرين في حربٍ ما، لا بدّ أنّ ذلك يجب أن يكون ردّا عادلاً على المجازر التي يسكت عنها اليوم.
أمّا النموذج الثالث (والأخير) من اللبنانيين فهو الذي يمثّل كل الناشطين اللبنانيين الذين يغضون النظر عن المجازر في حلب والموصل، ويفضّلون التركيز على أمورٍ من قبيل "النضال لبقاء المساحات الخضراء في بيروت" و"منع الاستيلاء على الكورنيش" والنضال "ضد التعنيف الأسري"، وما إلى ذلك. هذه التفاصيل الموضِعية التي قد تكون مهمّة في الأحوال العاديّة لأيّ بلاد عاديّة، حتمًا ليست أولويّة لمن يفترض أنّه يناضل جدّيًا للتغيير الجذري في المستعمرة اللبنانيّة: لا بأس أن تناضل ضدّ الفساد في الإدارات العامة مثلًا، لكن هذا يأتي فقط، بعد أن تناضل، على الأقلّ بالكلمة، ضد مشاركة لبنانيين في مجازر جماعية في حلب والموصل. للأسف، هذا التخاذل طاغٍ عند أكثريّة الناشطين، ومنهم اليساريون اللبنانيون الذين لم يكفّوا بعد عن اللطم والبكاء بسبب وفاة فيديل كاسترو، لكنهم لم يفكّروا بتنظيم وقفة احتجاجيّة واحدة استنكارًا للمجازر في حلب. موقف هؤلاء ليس بعيداً عن موقف الحزب
" الشيوعي الفرنسي، الذي كان يناضل من أجل حقوق الطبقة العاملة في فرنسا، بقيادة موريس توريز، لكنه كان يسكت عن التعذيب المنهجي للجزائريين الذي كان ينتهجه الجيش الفرنسي هناك. لكنّ حظنا عاثرٌ أكثر من الطبقة العاملة الفرنسيّة: اليساريون في لبنان أكثر غباءً من يساريي فرنسا الذين حاول جزء منهم أن يحارب حكّام دولته، بسبب استعمارها الجزائر، بينما المناضل "اللبناني الغبي" يفضّل أن يناضل ضد "طواحين" الفساد و"المال الريعي"، لكنه يسكت تماماً عن مصادر تمويل حزب الله حربه الإيرانية على العرب.
كل يوم تتناوب هذه النماذج اللبنانية الثلاثة على قتل لبنان، وستنتهي إلى تدميره حتمًا. لبنانُنا الذي غشّتنا فيه أغاني فيروز، وبهرنا تنوّع مدنه وقراه وحريّة الكلمة التي (كانت!) فيه، لبناننا هذا لم يعد حتى الحلم ممكنًا فيه اليوم. حلّ محلّه، وبسرعة، لبنان المجرم، وفيه سارقون يحمون أنفسهم محوّلين أكثرية اللبنانيين إلى إمّعاتٍ مشغولةٍ بالتفكير كيف يمكن لها أن تشتري بيتًا أو سياّرة أو ثلّاجة... مقسّطة عشرين عامًا! جعلوا من اللبنانيين شعبًا منهمكًا في تسديد قرض بنكيّ بعد آخر، ثم يشمت بالسوريين النازحين في اللحظات القليلة التي يريد أن ينسى فيها عبوديته لرأس المال. أمّا القسم الثالث وهم سذّج يحلمون بتغيير لا يريدون دفع ثمنه، هؤلاء يعتبرون أنفسهم أرقى من النموذجين الأوّلين، ويعتقدون أنّ في استطاعتهم أن يصلحوا شيئاً إن تجاهلوا جرائم حزب الله في العرب. إنّهم الورثة الفعليون لتقسيم العمل الذي أرساه النظام السوري في لبنان منذ التسعينيات: ليشتغل رفيق الحريري في "الاقتصاد" بينما يشتغل آخرون في "مقاومة" العدو الصهيوني. والآن في زمن الاستعمار الإيراني لدينا سذّج يريدون الاشتغال في أوهام "مكافحة الفساد" و"بناء الدولة"، بينما يشتغل آخرون في قتل أطفال العرب.
خليل عيسى