منذ ترشيح رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية، وصَف الأمين العام لـ«حزب الله» السيّد حسن نصر الله مبادرته بأنّ فيها «شبهة خُبث». ومنذ رشّح نصر الله عون للرئاسة اعتبَر جعجع أنّ الحزب يريد من ذلك شراءَ وقتٍ لاستمرار الفراغ.بعيداً مِن صدقية رؤية الطرفين لأسباب كلّ منهما من وراء ترشيح عون، فإنّ ما يمكن الركون إليه من خلال مواقفهما الراهنة تجاه بعضهما البعض، يَشي بأنّهما يقفان على خط سباق محموم، يحاول كلّ طرف من خلاله جعلَ لونِه أغمق في الهوية السياسية لعون الرئيس، بعدما تنازَعا ليُظهر كلٌّ منهما الآخرَ بأنّ نيّاته غير صادقة في ترشيحه لعون.
بيئة عون الرئاسية تَعتبر أنّ مشكلة تأليف الحكومة ناتجة ممّا علق من الاشتباك الذي جرى خلال فترة الترشيح، بين أطراف أساسية، كلّ منها حاوَل إظهارَ أنّ لها الفضلَ الأكبر في إيصال عون لبعبدا.
فالنزاع الراهن بمفهوم «حزب الله» يَهدف إلى تحديد سقف «تفاهم معراب» منذ الآن، ومنعِه من الوصول إلى مرتبة تحالف مسيحي تحت مظلّة العهد، له على الساحة المسيحية مفاعيلُ تحالف الثنائي الشيعي على الساحة الشيعية. أمّا النزاع بمفهوم «القوات» فهو على جعلِ «تفاهم معراب» جزءاً من معادلة عهد عون السياسية التي كانت محتكَرة بنسبة عالية من تفاهم مار مخايل الذي صار تحالفاً.
داخل «حزب الله» يعترفون بأنّ الحزب اطّلعَ أوّلاً بأوّل على تفاهم معراب، وأنّ عون لم يخفِ بنداً واحداً منه على نصرالله، ولكنّهم يعترفون أيضاً بأنّ هذا التفاهم لم يعجبهم من الأساس، ولكنّ الحزب قرّر تأجيل مكافحته للحظةِ ما بعد انتخاب عون.
حينذاك لم يقرأ جعجع جيّداً سلوكَ الحزب من «تفاهم معراب»، ولم يفكّ أحجية كيف أنّه اطّلع على كلّ مساره، ومِن ثمّ لم يقم بعد ذلك بتأييد الزخم الذي أنتجَه لإيصال عون إلى بعبدا. وفسّر جعجع ذلك بأنّ الحزب يحاول التملّص من انتخاب عون، وأنّ مرشّحه هو الفراغ.
ربّما الآن وصلت الفكرة الكاملة لجعجع عن أنّ سبب عدم معارضة الحزب تفاهمَ معراب حينها، لم يكن موافقته عليه، بل تأجيل الاشتباك معه إلى لحظة ما بعد وصول عون إلى الرئاسة حتى لا يصطاده فخّ جعجع الذي يتّهمه بأنّ مرشّحه هو الفراغ.
عنوانُ اشتباك «حزب الله» بمفعول رجعي مع «تفاهم معراب»، له شيفرة، هي موقع النائب سليمان فرنجية في عهد عون في مقابل موقع «القوات»، وليس في الأساس الوزارة التي يجب الحصول عليها.
ثمّة همسٌ في «حزب الله» يقول إنّ فرنجية يَرضى بوزارة الثقافة، شرط أن يتمّ ردُّ اعتبارِه المعنوي والسياسي داخل عهد عون، ولذلك وصفةٌ وحيدة وهي أن يستعيد موقعه السابق حليفاً أوّليّاً لـ«التيار الوطني الحر»، الأمر الذي سلبَه منه جعجع.
يَجهد «حزب الله» في مناسبة عقدةِ توزير «المردة» في الحكومة العتيدة، ليفتحَ قناة حوار بين رئيس الجمهورية وزعيم بنشعي، تفضي إلى إعادة التحالف وليس إلى حلّ أيّ وزارة ستُسنَد إلى «المردة».
وزارة الأشغال فيما لو حصلت عليها «المردة» لن تكون أكثرَ مِن تعويض معنوي لفرنجية تحت سقف استمرار اشتباكه السياسي مع عون الذي يظنّ «حزب الله» أنّ «القوات» تغذّيه لتحافظ على موقعها حليفاً أساسياً وأوّلياً وحتى وحيداً داخل الساحة المسيحية للعهد.
وبدل ذلك يفضّل الحزب علاقةً تحالفية أقوى لفرنجية مع عون ومنافسةً لعلاقة الأخير بـ«القوات»، على نَيل فرنجية حقيبةً أساسية في حكومة العهد التي يسِمها عون بأنّها ليست حكومته الأولى. وعليه، يصبح في نظر بنشعي الشكل الذي سيتمّ مِن خلاله لقاء المصالحة بين فرنجية وعون مهماً جداً، لأنه سيَختبر رغبة عون في ما إذا كان فعلاً يريد إعادةَ عقارب تحالفاته على الساحة المسيحية إلى ما قبل عصر «تفاهم معراب».
كان طبيعياً - وحال الاعتبارات على هذا النحو- أن يَرفض فرنجية «المبادرة الأبوية» التي صمَّمتها بعبدا، لتكون إخراجاً مناسباً لها، لحصول لقاء مصالحة بين فرنجية وعون.
فهذه المبادرة لا تضمن لفرنجية نَيله خصوصيةً فارقة داخل نظرة العهد إليه، بل تُظهره على أنّه زائر سياسي لبعبدا من بين جميع الزائرين السياسيين الآخرين.
وطالما ظلّ الحزب غيرَ قادر على هندسةِ مساحة مطلوبة لموقع فرنجية داخل عهد عون، ستظلّ قائمةً معادلة أنّ جعجع بترشيحه لعون كسبَ نتائجَ على مستوى الاستثمار في عون الرئيس، تجعله هو الكاسب داخلَ معركة سباقه مع الحزب للاقتراب من غاياته الاستراتيجية لهذا الترشيح، فيما يعاني «حزب الله» من أنّ نصرَه الاستراتيجي الإقليمي في إيصال عون للرئاسة، يتعثّر في جنيِ مكاسب داخلية، خصوصاً في نقطةِ منعِ تحوّلِ «تفاهم معراب» تحالفاً استراتيجياً مسيحياً يشوِّش على «تفاهم مار مخايل» وعلى خريطة تشَكُّل الساحة المسيحية لتظلّ عند نقطة الحفاظ على ثمار «تفاهم مار مخايل».
أبرزُ ملاحظة في هذا المجال، أنّه للمرّة الأولى ينشأ خط تماس سياسي داخلي ساخن بين «القوات» و«حزب الله»، منذ «جمهورية الطائف».
للمرّة الأولى تتحوّل «القوات» من خصمٍ عقائدي لـ«حزب الله» إلى خصمٍ سياسي فعلي. وحذاقة جعجع الاستراتيجية في هذا المجال تكمن في أنّه انتقى مساحة تحالف عون مع حزب الله لينشئ فوقها قواعد لعبة اشتباك سياسي فعلي، وليس فقط عقائدي، مع الحزب.