صحيح أن الإحباط كان سمة لازمت المسيحيين خلال سنوات طويلة، وذلك عند مقارنتها بنفوذ المسلمين في الحكم. لكنّ قليلاً من التدقيق، يكشف أن الحديث هنا لا يتعلق بجميع المسيحيين. وأي مقاربة ومراجعة دقيقة لحال المسيحيين خلال السنوات العشرين الماضية، لا تظهرهم كأفراد خارج إطار السلطة والمنافع أيضاً. لكن، كانت قوى منهم خارج أدوات الحكم، وهذا أمر صحيح.
لكن يبدو أنه يجب التذكير ــ ونبش الماضي ــ بأن الإحباط الفعلي أصاب أيتام الجبهة اللبنانية، لأن القوى الحديثة عند المسيحيين ظلت في حالة مقاومة. أما القوى التقليدية، عندما ترفع شعار الإحباط، ثم تنتقل إلى شعار استعادة الحقوق، فإنما هي تفترض نفسها الممثل الشرعي والوحيد والأبدي للمسيحيين. وهو ما يقودنا مباشرة إلى البحث عن حقوق أحزاب الكتلة الوطنية والكتائب والقوات اللبنانية والأحرار، دون تجاوز الزعامات المحلية من آل فرنجية وآل معوض وآل حرب، إلى آل إدة وآل الخازن وآل الجميّل وآل المر وأل شمعون، إلى آل رزق وكرم وسكاف وغانم و...!
بين المسيحيين اليوم، من يحاول الاحتيال على الواقع، وتجاوز المعنى الحقيقي لانتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية. إذ إن ما حصل، مثل الإقرار العلني أو الضمني، الطوعي أو القسري، من غالبية لبنانية حقيقية، بأحقية التيار الوطني الحر في تولي سدة الرئاسة، هو تعبير عن إقرار مسيحي أولاً، ومسلم ثانياً، بأن التغيير النوعي في التمثيل السياسي عند المسيحيين، الذي قاده العماد عون قبل ثلاثة عقود، إنما هو في حقيقة الأمر، العلاج المضاد لإحباط أصاب الشارع المسيحي نتيجة الفشل الاستثنائي الذي خلفته سياسة كل القوى والزعامات التقليدية التي قادت المسيحيين أو احتكرت تمثيلهم طوال عقود. وبالتالي، إن انتخاب عون هو الانتقال بمنطق العماد عون وأنصاره، من إطار حزبي أو مناطقي أو حتى طائفي، إلى المكان الأرحب، حيث يقدر عون، ومعه التيار، على لعب دور عام، يصيب بنتائجه جميع اللبنانيين، متكلاً على علاقات وثيقة وحقيقية مع القوى الحديثة عند المسلمين، حتى ولو لم يكتمل عقدها بعد.
لكن ما الذي يحصل اليوم؟
ليس في الانتقاد من ظلم، خصوصاً عندما يطاول صاحب القضية. والمقصود هنا التيار الوطني الحر، لأن حصاد الانتصار السياسي الكبير، إنما يحتاج إلى آليات مختلفة، وأهمها الوقوف في وجه محاولة تصوير انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية، على أنه حدث مسيحي.
إذا كان منطقياً أن يتنفس الشارع المسيحي الصعداء، ويشعر ببعض القوة الإضافية، لكون عون وصل إلى الرئاسة، فإن المنطق السليم يفرض عدم إغماض العيون عن حقيقة الاستراتيجية التي قادت إلى تحقيق هذا الانتصار، وأساسها - تماماً كما قال الوزير جبران باسيل ليلة الاحتفال بانتخاب عون - صمود الجنرال وتياره، والتحالف مع حزب الله. ثم جرى بعد ذلك رفع البناء مع شركاء، ليس هناك من يجزم بأنهم لن يغامروا مرة إضافية ويهدموا المنزل من جديد.
من الذي يرفع شعار استعادة الحقوق، ويحوله فجأة إلى شعار استعادة السلطة، ثم يبدأ الدوران حول سؤال المعادلة: الحقوق تقود إلى السلطة أم أن السلطة تحصِّل الحقوق؟
ليس هناك أسئلة محرمة. لكن بالتأكيد هناك أجوبة محرمة. والتحريم هنا لا يتعلق بقمع طموح أو سعي إلى موقع أفضل، بل هو تحريم لفكرة العودة إلى منطق يقول بأنه لا مجال في لبنان لأن تحظى مجموعة بالحق والعدل، إلا ويكون الثمن غبناً وتعاسة يلحقان بطرف آخر.
بهذا المعنى، وجب القول صراحة ومباشرة:
أولاً: إن استعادة الحقوق تعني استعادة التوازن في السلطة. وهذا يعني استعادة الحق المرهون من الآخرين، وليس البحث في وسيلة مناقشة الآخرين في حقوقهم.
ثانياً: إن همروجة إعلامية، وخطاباً شعبوياً مليئاً بالحقد الدفين، والرغبات غير الموضوعية، لن تحفظ المعادلة الجديدة، وهذا هو خطر الخطاب الذي تتبناه «القوات اللبنانية» وبعض من بقايا 14 آذار، الذين قرروا الانضمام إلى الحفل، علّهم يحفظون بعض مكاسبهم في عهد العماد عون أيضاً.
ثالثاً: صحيح أن آلية تشكيل الحكومة تعكس جانباً من التوازن المستجد، لكن إعادة بناء التوازن في السلطة، ستضعنا أمام استحقاق كيفية إدارة الحكومة والإدارات العامة. ولنأخذ مثلاً أمراً يحصل الآن، إذ عندما تبدأ «القوات» بطلب السير الذاتية لكبار ضباط الجيش، لكونها ستختار منهم القائد الجديد، نكون عندها أمام مفارقة عجيبة. لسبب بديهي، هو أن «القوات» ليست مؤهلة على الإطلاق لاختيار قائد للجيش، وهي لم تخرج بعد من التأهيل المطلوب منها للمصالحة مع الجيش، ثم لكونها، تصدق نفسها بأنها انتصرت في معركة الرئاسة، وبالتالي، هي تقول إن من حقها أقله المشاركة في اختيار قائد الجيش. وهي نفسها «القوات» التي لم تصل قيادتها وآلتها الإعلامية بعد أي أنباء عن وجود إرهابي على حدود لبنان.
رابعاً: إن خطورة موافقة العماد عون، أو التيار الوطني الحر، على فكرة الاستحواذ على الحصة المسيحية من الدولة، يعني أولاً، الإقرار بحق بقية القيادات في الاستحواذ على الحصص الإسلامية الأخرى في الدولة، وهذا ما يناقض جوهر فكرة الدولة التي يناضل التيار الوطني الحر لأجلها. هذا عدا عن أن «القوات» إنما تهدف من خلف هذا الشعار، إلى تكريس معادلة، تأمل هي أن تتولاها وحيدة عندما يتيح لها الزمن العودة إلى الغدر بجميع من يجلس معها على الطاولة.
خامساً وأخيراً، إن نجاح محاولة البعض، تحويل حدث وطني كبير ونوعي، تمثل في انتصار العماد عون، إلى قضية تخص قسماً من اللبنانيين، يعني حكماً، دفع بقية اللبنانيين، والسيئين منهم على وجه التحديد، إلى لعبة تأبيد النظام الطائفي الذي يحكم لبنان منذ أن اخترعه الاستعمار دولة مستقلة ونهائية. وهذا يعني أنه عند أول مفترق إقليمي كبير، سيخرج من بين المسلمين، وهناك استعداد لذلك، من يطالب بتغيير جوهري لصيغة الحكم والنظام في لبنان. وعندها، نسير جميعاً باتجاه خيارين أحلاهما مرّ: الهجرة أو الذمية!