أثبتت تجربة عدم تمكّن العهد الجديد من تشكيل حكومته الأولى، مع ما يحمله هذا التعثر من وقائع تعكس المأزق الحقيقي الذي تعيشه البلاد، منذ ما قبل إنتخاب رئيس جديد للبلاد، وطوال فترة الفراغ الرئاسي، وما قبله في عهد الرئيس ميشال سليمان، الذي أمضى نصف ولايته تقريبًا من دون حكومات منتجة وفاعلة.
فقد ظنّ اللبنانيون، صادقين، أنه بمجرد إنتخاب رئيس، هو الأقوى في بيئته، ستصطلح الأمور، وستكون إنطلاقة العهد مزّخمة ومنتجة، ليتبن لهم بعد شهر على تكليف الرئيس سعد الحريري، بما يقارب الإجماع النيابي، أن ثمة أزمة حقيقة تحكم علاقة اللبنانيين بعضهم ببعض، وهي أزمة ناتجة عما يباعد بينهم من عدم وضوح في الرؤية المشتركة لما سيكون عليه وجه لبنان الجديد، وما يجعل الحلول المجتزأة قابلة للتفسيرات المتناقضة بين هذا الفريق أو ذاك.
وقد دلّت الوقائع أن ثمة واقعًا يتجاوز بعمقه مسألة توزيع الحقائب الوزارية، بين سيادية وخدماتية وعادية، وكأن البلاد تعيش حاليًا ترفًا سياسيًا يسمح بالتلهي بالتفاصيل، فيما الجوهر موضوع في آخر سلّم الأولويات، بحيث اصبح لزامًا على الجميع من دون استثناء التفكير بما يمكن اجتراحه من حلول فورية لإنقاذ ما يفترض إنقاذه، بغض النظر عما يجري من حولنا من تطورات متسارعة، وبغض النظر ايضًا عن توجه كل فريق ومدى إرتباطه بالخارج، وما يعّوله على متغيرات إقليمية قد تصّب في مصلحته الخاصة.
ومن بين هذه الحلول التي تفرض على الجميع الجلوس إلى طاولة واحدة لإستنباطها والخروج بما يشكّل قواسم مشتركة تأخذ في الإعتبار مصالح الوطن العليا قبل الشروع في ما يمكن أن يقود إلى حافة الإنزلاق في متاهات لا تكون الوحدة الوطنية عنوانها الرئيسي والأساسي، هو الإتفاق على مرّة أخيرة على أي لبنان يريدون.
وقد تكون الأولوية في الوقت الراهن الشروع في إستكمال تطبيق إتفاق الطائف وتحصينه بقوانين تضمن حُسن تنفيذ مضامينه وعدم الإنجرار في ما يمكن تسميته مغامرة إعادة النظر ببعض بنوده، لأن من شأن فتح هذا الباب أن يؤدي عمليًا إلى ما لا تُحمد عقباه، خصوصًا أن الساحة الداخلية تبدو غير محصّنة بفعل تأثرها بأوضاع المِنطَقة التي تتجِهُ إلى مزيدٍ من التشابُك والتعقيد.
ومن بين هذه الحلول التي يمكن أن تكون اللبنة الأساسية لوضع البلاد على السكة الصحيحة ما أقترحه الرئيس نجيب ميقاتي من عناوين صالحة يمكن التأسيس عليها وصولًا إلى دولة العدالة والتوازن الوطني السليم، وهو طالب بإعتماد قانون عصري للانتخابات النيابية يعتمد النسبية ويُعزز الشفافية مع إعتماد المحافظة كدائرة انتخابية، وذلك لضمان أوسع تمثيل وتأمين مقتضيات الشراكة الوطنية والإنصهار الوطني، وإقرار قانون اللامركزية الادارية الموسعة، من دون أن تؤول هذه اللامركزية إلى أي شكلٍ من أشكال الفيدرالية، بل منطلقًا لتعزيز العَيش المُشترك، وتطوير الأُطر القانونية للمجلس الدستوري، وتعزيز إستقلالية القَضاء وتحصينه، وتعزيز دَور المدرسة الرسمية والجامعة اللبنانية وتقوية قدراتهما، وتعديل قانون القضاء العسكري، وإعماد الشفافية والمنهجية في المالية العامة للدولة، ووضع قانون لإنشاء مجلس الشيوخ، وإعادة تكوين المجلس الاقتصادي والاجتماعي للتنمية.
فإذا لم يقتنع جميع اللبنانيين بأن هذا الوطن هو البداية والنهاية، وأن التحالفات الخارجية مرهونة بظروفها وبأوقاتها ومصالحها الضيقة، فستبقى الأزمات الداخلية تستولد أزمات أخرى، وما التعثر في تشكيل الحكومات سوى تفصيل من تفاصيل أخرى قد يفضي تفاقمها إلى خيارات لا تصّب في مصلحة الوحدة الوطنية.
اندريه قصاص : 24