هناك مَن يقول: مرّةً جديدة يتأكّد أنّ «حزب الله» لم يكن راغباً في وصول الرئيس ميشال عون إلى بعبدا. فـ«الحزب» كان يمتلك الخيالَ الواسع ليتوقّع «المتاعب» القائمة اليوم بين عون و«الثنائي الشيعي»، والمتاعب الكثيرة الآتية في السنوات الستّ المقبلة. والفارق بين «الحزب» والرئيس نبيه بري هو أنّ الثاني أعلنَ موقفَه بوضوح، فيما الأوّل كان محشوراً في خياره.في تقدير البعض أنّ البرودة الحاصلة اليوم بين «الحزب» وعون تنفي الفرضية القائلة إنّ الرجل وصَل إلى الرئاسة نتيجة استعجال «الحزب» لإيصال مرشّحِه إلى بعبدا استباقاً للانتخابات الأميركية.
فلو كانت هذه الفرضية صحيحة لَما وَقعت الأزمة الحالية، ولكانَ «الحزب» وافقَ سريعاً على حكومةٍ تُرضيه بالحدّ الأدنى، تأتي إليها «القوات اللبنانية» ويتمثّل فرنجية ويسير بها بري... ما دامت ستعيش بضعة أشهر، وبعد الانتخابات النيابية يكون لكلّ حادث حديث.
لكنّ آخرين يطرَحون افتراضاً معاكساً: ماذا لو كان «الحزب» راضياً ضمناً عن مسار العهد، وهو يتعمّد إضاعة الوقت بتعقيدات التأليف الحكومي لتمرير الفترة الفاصلة عن الانتخابات، في أيار، بحيث تَسقط عملياً «الوكالة» الممنوحة بتسمية الرئيس سعد الحريري؟
عندئذٍ، سيُعاد خلط الأوراق بناءً على المعطيات السياسية التي تَفرزها تلك الانتخابات، ويتنصّل «الحزب» من الحريري بطريقة تلقائية ويمكن تالياً البحثُ عن شخصية جديدة لرئاسة الحكومة.
في هذه الحال، يقول هؤلاء، يكون «الحزب» قد استفاد من الحريري، ومِن تغطية المحور السعودي، لتأمين انتخاب حليفِه عون لا أكثر ولا أقلّ. وبعد ذلك، يكون هناك متّسَع من الوقت لانطلاق العهد وفقَ توازنات تلائم فريق 8 آذار. فعون لن يخرج عن مسار هذا المحور.
في أيّ حال، إنّ إيران لن تتخلّى عن الورقة اللبنانية بأيّ ثمن، فيما هي تعمل بالحديد والنار للإمساك جيّداً بالورقتين العراقية والسورية، وترغَب خصوصاً في الاحتفاظ بكلّ المكتسبات على أبواب عهد الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب الذي يتوعّد بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء في ما يتعلق بالعقوبات مع طهران والاتفاق حول برنامجها النووي.
ومِن البديهي أن توعزَ طهران إلى حلفائها في لبنان بأن يكونوا متيقّظين لأيّ خطأ أو تنازُل قد يؤدي إلى الإخلال بموازين القوّة الراجحة حالياً لمصلحتها، من دون أيّ مبرِّر. وفي اعتقاد ذوي هذا الرأي أنّ هؤلاء الحلفاء قادرون، ومن دون أيّ عناء، على تجميد الحياة السياسية والعهد والحكومة والانتخابات إلى أجلٍ غير مسمّى، ما يشكّل ثِقلاً ضاغطاً على الآخرين لينصاعوا إلى الخيارات المطلوبة.
بعض هؤلاء يفترض أيضاً أنّ «الحزب» متفاهم، أو يتوقّع التفاهم في أيّ لحظة، مع عون حول كلّ هذه التفاصيل. فلا خوف من سوء تفاهم بين طرفين «اعتاد كلّ منهما على الآخر» طوال عشر سنوات.
طبعاً، تبقى وجهة النظر هذه مجرّد افتراض. فالقائلون بوجود خلاف حقيقي وعميق بين «الحزب» وعون يطرحون دلائلَ كثيرة ويعرفها الجميع، ولا سيّما منها أنّ تبَنّي «الحزب» لانتخاب عون تمَّ ببرودة، وبعد عامين ونصف عام من التأخير، مرفَقاً بإعلان مسبَق عن توكيل غير قابل للعزل لبري - خصمِ عون الأعتى - للتفاوض باسم «الحزب» في الحكومة وكلّ المسارات السياسية المرادفة.
ويضيف هؤلاء: أدّى «حزب الله» قسطَه للعُلى مع حليفه الماروني وأوصَله إلى بعبدا. وبعد ذلك، ينتظر «الحزب» من عون أن يردّ له مبادرته بالعودة إلى خيارات «الثنائي الشيعي» التي لولاها لما كان رئيساً.
ويقولون: «ليتذكّر عون أنّ «الحزب» بقيَ صامداً إلى جانبه في كلّ لحظة منذ ما قبل الفراغ الرئاسي في أيار 2014، ولم يأتِ إليه حديثاً. وليتذكّر عون أيضاً أنّ بري كان قادراً على تعطيل جلسة الانتخاب لكنّه لم يفعل».
المشكلة اليوم في ملعب عون: يكون مع مَن: مع «الثنائي» أم «القوات» والحريري؟ أي مع 8 أم 14؟ فكلّهم دعَموه، ولكلّ منهم دورٌ في وصوله إلى السلطة.
بالتأكيد، مصلحة عون هي أن يكون راعيَ المصالحات التاريخية والتسويات بين المتناقضين: بين «الحزب» و»القوات»، وبين عون نفسِه وبري، وبين عون وفرنجية، وبين «القوات» وفرنجية وسائر القوى المسيحية القلِقة على مستقبلها.
لكنّ مشكلة عون تَكمن في الحلقة المفرغة التي يدور فيها الوضعُ السياسي: يجب أن تحصلَ هذه المصالحات ليتمكّن العهد من الانطلاق قويّاً ومستقرّاً، ويجب أن ينطلق العهد قوياً ومستقرّاً ليستطيع تحقيقَ المصالحات!
وفي الدوّامة، يبحث كلٌّ عن مصلحته في خضمّ الهواجس والقلق على المصير. ولا أحد يريد المغامرةَ بمصيره، بما في ذلك «حزب الله» الذي
يمتلك مشروعاً استراتيجياً يمتدّ من المتوسط إلى طهران، ويكلّفه الوقتَ والجهد والدم.
فهل يظنّ أحد أنّ «الحزب» يتخلّى عن أيّ مكسب استراتيجي محقَّق أو يتوقّع تحقيقَه تحت أيّ ظرفٍ ومقابل أيّ ثمن؟
من هنا، يجب التفكير بالأزمة التي تَغرق فيها انطلاقة العهد، واستكشاف الآتي من أزمات لم تولد بعد...