هل نبالغ إذا ما قلنا إنّ التفاهم التركي الروسي في سوريا يكاد يتحوّل الى مصيدة تسقط فيها السياسة التركية هناك؟ هل من الممكن القول أيضاً إنّ النظام السوري الذي سلّم كلّ أوراقه إلى روسيا، حاصر القرار الإيراني هناك في إطار خطة روسية تضعف طهران وتدفعها للتراجع الى درجة المواجهة المباشرة مع تركيا، بعد لعب ورقة النظام السوري في مهاجمة الجنود الأتراك في الباب؟هل يجوز القول إنّ أميركا اكتفت بشرط حماية مصالح الحليف المحلي الكردي، وتنازلت عن بقية القضايا إلى روسيا لتتصرّف كما تشاء في الجغرافيا السورية في إطار صفقة إقليمية مع الكرملين؟

تناقلت وسائل إعلام تركية بالامس معلومات نسبتها الى مصدر دبلوماسي تركي مسؤول يقول فيها "ما يشيّب الشعر": الهجوم الذي نفّذته طائرات نظام الأسد في 24 تشرين الثاني المنصرم ضد مجموعة من الجنود الأتراك لم يكن رسالة من النظام فقط، بل إنّ روسيا أيضاً لها اليد الطولى في كتابتها.

الإستهداف ناتج عن تنسيق روسي سوري واضح، روسيا وافقت على الهجوم ضمنياً من خلال عدم منعها النظام من تنفيذه، مدينة الباب تقع في محيط العمليات المتفق عليها، إلّا أنّ ما بعد الباب مناطق خاضعة لسيطرة إيران وروسيا والنظام السوري ووحدات الحماية الكردية، والاتفاق تمّ مع روسيا على عدم تقدّم القوات التركية نحو حلب مهما كانت الأسباب. "تفضل ولع من هون ..." كما يقول الأتراك على خبريات من هذا النوع.

منذ قرابة 6 سنوات، وأنقرة تذكّر الجميع بأهمية وموقع ودور مدينة حلب التاريخي بالنسبة لها باعتبارها أبرز محافظات الثورة وأقرب المدن للحدود التركية. أنقرة رأت دائماً في حلب خط الدفاع المتقدم عن امتدادها التاريخي وحدود اليوم، فهل تنازلت تركيا عن سياستها فيما بعد مدينة الباب حقاً؟

لقاء وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو بنظيره الروسي سيرغي لافروف امس في تركيا يفتح الباب امام نقاش من هذا النوع كون التركيز في المباحثات تمحور حول اعادة العلاقات التجارية والاقتصادية بين البلدين الى سابق عهدها، وكون لافروف يقول إنّ الاجتماع الذي عقده مع قيادات سورية في المعارضة جاء بطلب تركي وليس بطلب روسي، وإنّ بلاده مستعدة دائماً للاستماع الى الجميع في سوريا، لكنّ موسكو ستواصل دعمها للجيش السوري في حربه على التنظيمات الإرهابية في حلب.

موسكو تتحدث عن أهمّية الحلّ السياسي في سوريا، لكنّها لا تتنازل في الاستمرار بحربها على قوى المعارضة السورية تحت ذريعة محاربة التنظيمات الإرهابية، وهي تذكّر الأتراك أنّ المرحلة الإنتقالية لا بد أن تأخذ في الاعتبار وجود الاسد الدائم أمام الطاولة من دون أية ضمانات زمنية.

موسكو تستفيد ايضاً من خطاب بشار الأسد أمام مجلس الشعب السوري عندما قال إنّ حلب ستتحوّل الى المقبرة التي تدفن فيها أحلام أردوغان، وإنّه لن يعبأ بما تقوله القيادات السياسية الأوروبية اليوم حول تحويل المدينة الى مقبرة جماعية للمدنيين.

عملية "درع الفرات" تكاد تتحوّل الى عقبة تعرقل تقدم الخطة التركية نفسها، طالما أنّ موسكو لا تعلن دعمها لدخول القوات التركية الى الباب، بل على العكس من ذلك ها نحن نتابع لافروف وهو يصب الزيت مرة أُخرى على نار التوتر بين تركيا والنظام السوري من جهة وتركيا وايران من جهة ثانية، عندما قال إنّ موسكو لا علاقة لها باستهداف الجنود الاتراك في الباب، وإنّ قوات النظام هي مَن يتحمّل مسؤولية الهجوم، وإنه يتمنّى أن لا تتكرر أعمال من هذا النوع "لأنّها تبعدنا من الهدف الأساس الحرب على الارهاب". علماً أنّ موسكو تراجعت عن هذا الكلام لاحقاً متحدثة عن خطأ في الترجمة التركية له.

هدف موسكو كان منذ البداية جرّ تركيا الى فخ الباب وتركها هناك وجهاً لوجه مع قوات النظام ومجموعات "داعش" والرغبة الايرانية في الانتقام من انقرة، التي اصرّت على التدخل العسكري في شمالي سوريا والعراق لقطع الطريق على مشروعها في المكانين.

الكرملين أبدى براعة فائقة في الايقاع بين انقرة وواشنطن عندما كسب الاتراك الى جانبه في خطة شمال سوريا، ووعد اميركا أنّ التفاهم الحقيقي سيكون معها، هي طالما أنّ تفاهم الحرب على الارهاب بأنواعه هو الحل الوحيد والقاسم المشترك بينهما للحلّ في سوريا .

في التاسع من شهر آب المنصرم اليوم الذي كان فيه الرئيس التركي رجب طيب اردوغان يعلن المصالحة مع نظيره الروسي فلادمير بوتين في سانت بترسبرغ كان الدوما الروسي يصدر قرار اطلاق بوتين عسكرياً في سوريا باتجاه ارسال المزيد من القوات، وعقد المزيد من الاتفاقيات وتوسيع رقعة العمليات العسكرية الروسية في سوريا.

بعد ساعات قليلة على استهداف الجنود الاتراك في الباب تحرّكت قوات النظام السوري بالتنسيق مع حلفائها للسيطرة على شرق حلب، أيّ نوع هي التفاهمات التركية الروسية إذاً؟ وهل الاتفاق يتضمّن إيصال الامور الى هذه النقطة في حلب ؟

موسكو حصلت على ما تريد والأولية التركية بعد الآن قد تكون محاولة انقاذ ما يمكن انقاذه في "درع الفرات"، وربما مقايضة الباب باخراج الوحدات الكردية من مدينة منبج والحيلولة دون قيام كيان كردي على حدودها الجنوبية.

معركة حلب تحولت الى فرصة روسية لتحسين وضعها السوري اكثر فاكثر وتقوية شروط التفاوض مع اللاعبين الاقليميين وربما لحسم الصراع في سوريا. مصير سوريا النهائي يقرره توازن إقليمي ودولي تحدد موسكو شكله وحجمه وجدول اعماله وحدها.

نتائج معركة شرق حلب اليوم تكاد تقول إنّ موسكو هي الرابح الوحيد في سوريا بعدما خدعت الجميع هناك. المصالحة التركية الروسية في مطلع آب الماضي وانهيار التفاهم الروسي ـ الأميركي الذي أعلن في شهر أيلول المنصرم والتصعيد المستمر بين انقرة وطهران في سوريا والعراق، واحتمال حدوث التفاهم بين انقرة وموسكو في حلب، على رغم انعدام الموقف الروسي الواضح في مسألة الباب ورغبة الاتراك في الدخول اليها. كلها مؤشرات تؤكد تقدم الدبلوماسية الروسية على بقية اللاعبين فهل هناك فرصة للّحاق بها خارج سيناريو قصة سباق السلحفاة والارنب المعروفة؟

موسكو تحصل على كلّ ما تُريد في سوريا فهي تنسق مع اللاعبين المحليين والاقليميين الأقوى في الملف. لا توزّع سوى الوعود حتى الآن بدل الهدايا.

أمّا إنّها تتريث في انتظار تسلم دونالد ترامب لادارة شؤون البيت الابيض لفتح صفحة جديدة من الحوار معه في الملفات الإقليمية، وإمّا أنّ ما يجرى هو حلقة في خطة التفاهم الروسي الأميركي لإحراق اوراق الجميع في سوريا في اتجاه فتح الطريق امام مشروع الكيانات الفدرالية في سوريا الموحّدة!

(سمير صالحة - الجمهورية)