لم يعد سراً الحديث عن «مخاوف شيعية» من الثنائية التي كرّسها تفاهم «القوات اللبنانية» و»التيار الوطني الحر» وهو ما عكس توتراً لم يكن منتظراً بين الرئيس ميشال عون والثنائي الشيعي وهو لم يمضِ شهره الأوّل في بعبدا. وهو ما أحيا هواجس قديمة من مشاريع الثنائيات التي طُرحت في مراحل سابقة وما رافقها من مشاريع مضادة من بينها مشروع «توزيع العصي» على إحدى طرفيها. فما هي هذه التجارب وما آلت اليه؟بعد أيام قليلة على تبنّي الرئيس سعد الحريري ترشيح عون رئيساً للجمهورية في 19 تشرين الأول الماضي وقبل فترة مماثلة على انتخابه في 31 من الشهر عينه عبّر رئيس مجلس النواب نبيه بري عن مخاوفه من ثنائية مارونية ـ سنّية تحيي ما سُمّي المارونية السياسية عبر إحياء ميثاق 1943 الذي تجاوزته سلسلة التفاهمات التي تلت دخول لبنان الجمهورية الثالثة في «الطائف»، معلناً استعداده للدفاع عن «الشيعية السياسية» المهدّدة بالحصار الجديد المعلن بين الرابية المتّكئة على معراب و«بيت الوسط»، مؤكداً أنّ مثل هذه التفاهمات وبيانات النيات ومعها كلّ التفاهمات المسبَقة على تقاسم المواقع والحصص لن تمرّ وسيُصار الى تفكيكها واحدة بعد أخرى.
لم تمر أيام قليلة على هذه القراءة حتى زرعت القلق من تردّداتها الطائفية والمذهبية التي لم يتحدث عنها أحد في العلن فيما الجميع يتداول بها سراً ويتجنّب الحديث عنها.
ولذلك بذل وسطاء كثر جهوداً كبيرة للتراجع عنها سريعاً بسلسلة من توضيحات قالت بقراءة جديدة استندت الى نظرية مفادها أنّ مواقف الثلاثي الجديد الذي تمّ تركيبه بين «بيت الوسط» و«معراب» و«الرابية» تحوّل رباعياً بسرعة قياسية ليتلاقى مع موقف الضاحية الجنوبية التي أصرّت طوال فترة الشغور الرئاسي على أنّ الرابية هي المعبر الوحيد الى الإستحقاق الرئاسي وهو ما أدّى الى تعطيل 45 جلسة خُصِّصت لإنتخاب الرئيس.
وما إن طُويت هذه الصفحة وتراجع الحديث عن الحلف الماروني ـ السنّي الجديد حتى بدأت تظهر معادلات أخرى أنتجها تفكّك فريقَي «8 و14 آذار» وتشتّت أطرافهما.
فتعدّدت السيناريوهات الى أن رست أخيراً على «نقزة شيعيّة» بارزة من تحالف الرابية ـ معراب واكب الحديث عن حلف الأقوياء واستعادة «الحقوق المسيحية المصادَرة والمهدورة» في آن.
فبدأ الحديث يتنامى عن «حصة منفوخة» لـ«القوات اللبنانية» وتفاهمات سابقة قطعها العهد الجديد مع كلّ من معراب و«بيت الوسط» وهو ما عبّر عنه منطق «الفيتوات» في المرحلة الأولى من تشكيل الحكومة فكربجت مساعي الرئيس المكلّف وكبّلته.
وقبل أن تُطوى صفحة «الحصة المنفوخة» لـ«القوات» بدأ الحديث يتصاعد في الوسط الشيعي معطوفاً على التحذير من الدور الذي يلعبه رئيس «التيار الوطني الحر» وزير الخارجية جبران باسيل الذي تمّ تصويره بداية على أنه «الرجل الأول في العهد» قبل أن يسمّيه آخرون «الرئيس الظل». وترافق ذلك مع انتقاداتٍ لاذعة طاولت شظاياها عمَّه رئيس الجمهورية فظهر عندها أنّ ما تلقاه باسيل من مديح في المرحلة الأولى كان مخططاً له ليكون «مديحاً في سبيل الذم» لاحقاً.
فلم يعد هناك هامش فاصل بين موقعي رئيس التيار ورئيس الجمهورية خصوصاً عند حديث البعض عن «دور أساسي» يؤدّيه باسيل في تأليف الحكومة يُعدّ انتقاصاً من دور الرئيس المكلّف ورئيس الجمهورية في آن.
على هذه الخلفيات استعان بعض العارفين بخفايا وخلفيات ما يعوق تأليف الحكومة بتجارب سابقة شهدتها الساحة اللبنانية على مستوى السعي الى ثنائيات مختلفة.
فإلى الثنائية الشيعية التي كرّستها محطات سياسية سبقت حرب تموز 2006 وأعقبتها، كشف العارفون عن مساع بذلتها شخصيات دينية وسياسية إسلامية صغيرة من أجل ثنائية سنّية ـ شيعية عقب استقالة الوزراء الشيعة من حكومة الرئيس فؤاد السنيوة في 11 /11/ 2006 وزادت الحاجة اليها لاحقاً كما اعتقد أصحابها على قاعدة أنّ البلد يمكن أن يمشي بلا رئيس وعزّزها الشغور الرئاسي الذي أعقب نهاية ولاية رئيس الجمهورية.
وإنه يمكن معالجة الإنقسام السنّي ـ الشيعي القائم بالتفاهم بين مرجعيَّتي السراي والضاحية الجنوبية على حساب مرجعيّة بعبدا منعاً للفتنة المذهبية التي كانت تدق أبواب البلد صباحاً ومساءً، الأمر الذي لم ينجح فطُوِيت الفكرة.
وخلف هذا الطرح ظهرت في الجهة المقابلة معادلة أخرى قادتها مجموعة سياسية مسيحية صغيرة قالت يومها بما سمّته «سياسة توزيع العصي» على فريقَي السنّة والشيعة «وليكسروا بعضهم بعضاً». فتمّ وأد الفكرة قبل أن تبصر النور على قاعدة أنّ «الإنقسام الوطني» الذي أبعده وجودُ مسيحيين ومسلمين في «8 و14 آذار» قد أرجأ الخلافات المذهبية والطائفية، وإن كان ذلك على حساب المسيحيين لفترة لن تطول.
وإنّ الجهد يجب أن ينصبّ على منع الفتنة السنّية - الشيعية ضماناً لمصلحة البلد ووحدته وبقية مكوّناته التي ستدفع الثمن غالياً في حال حصول مثل هذه الفتنة.
وعليه، وفي ضوء كلّ هذه التجارب كان هناك مَن يتوقع في بداية العهد الجديد خيارَين سلبيَّين. أولهما أنّ العلاقة لن تبقى طبيعية أكثر من مئة يوم بين بعبدا والضاحية الجنوبية، فيما كان آخرون يراهنون على احتمال أن تكون مهلة كهذه كافية لنسف ما بُني من تفاهمات بين الرابية ومعراب. أما وقد بدأت طلائع مثل هذه التوقعات تظهر في أوّل 30 يوماً من العهد. فأيّهما يمكن أن يصحّ؟ وهل يمكن تجاوز الإثنين معاً!؟