ليس بالضحك وحده تنجح البرامج الكوميدية، ولكن فنّ إتقان النكتة السياسية والاجتماعية والدينية والفنيّة هو سلاحها الفتّاك للتمرّد على معادلات التبشير بالطائفية والخوف والخنوع، ولنقل البوق من فم السياسيين والرأسماليين والمفتنين إلى فم الشعب، حتى يكون له فعلاً منبر يطلق من خلفه صرخة وجعه وخوفه وخضوعه.
عادل كرم تخطى حدوده في برنامجه «هيدا حكي» ومسّ بالمحظورات، وسمح لأمتار مسرحه المربّعة القليلة أن تتحوّل قاعدة إطلاق صواريخ تهدم يميناً ويساراً... ولا نعرف حقّاً كيف تجرّأ في حلقته الاخيرة على تحويل 3 مواضيع محظورة إلى مادة كوميدية.
مين مفكّر حالو عادل كرم حتى يسمح للمشاهد اللبناني أن يضحك على موضوع الإسلاميين والسلفيين الذي من المفروض أن يرعبه؟... ومين مفكّر حالو حتى يكسر صورة تأليهنا العمياء للسيدة فيروز ويقنعنا بأنها إنسانة مثلنا؟... وبعدين مين مفكّر حالو حتى يهين ذكوريتنا الشرقية ويقول للمرأة إنك متساوية مع الرجل لا بل أكثر؟
أسئلة كثيرة يطرحها المشاهد المتفاجئ والإعلامي الغيران من الأداء الجريء لعادل كرم، في الموسم الجديد والمعزّز من «هيدا حكي»، الذي لا يشبه أبداً الموسم السابق.
ومش مهمّ مين مفكّر حالو عادل كرم، المهم أنه فكّر جيداً ووضع برنامجه على الخطّ الصحيح، وعرف أنّ درس الكوميديا «بيعلّم» أحياناً أكثر من دروس المعلّمة ومن قضيب الرمّان ومن محاضرات الثقافة، لأنّ كلّ ما يدخل دماغنا مع ضحكة مرسومة على فمنا يترسّخ أكثر في ذاكرتنا.
وبينما انهمكت البرامج التلفزيونية المختلفة طوال الأسبوع الماضي في السجود أمام صورة مبجّلة عن السيدة فيروز، وقَتلوا حالن المقدّمين حتى يعبّروا عن حبّهم لحبيبة الكلّ بلا جميلة مِن حدا... أنزل عادل كرم فيروز عن مذبح تأليهها المصطنع، وأعاد فيروز التي غنّت للمزهرية والضيعة ولقصصنا الصغيرة والبسيطة، أعادها للناس العاديين وتخايَلها واحدة منهم تمتلك حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي تخاطب الناس من خلالها، فأخرج برنامجه من عدوى الاستنساخ والتبجيل وجعله مركباً للأيقونة تبحر فيه بين عامّة الشعب.
أنا الذي أشتهي حلاوة الجبن الطرابلسية منذ ما يقارب العشر سنوات من دون أن أتذوقها، لم أستجمع شجاعتي للتوجّه إلى عاصمة الشمال سوى بعد حلقة «هَيدا حكي» الأخيرة واستقبال عادل كرم لشاب سَلَفي إسمه بلال المواس، الذي قدّم فقرة كوميدية ذكية كسر فيها حاجز الخوف بين اللبنانيين والطرابلسيين وبين المسيحيين والمسلمين، وأكّد في لحظة تلفزيونية مؤثّرة أن سكّان كوكب طرابلس يشبهوننا في كلّ شيء إلا في الصورة التي يرسمها الإعلام عنهم.
هناك كثير من جمعيات الدفاع عن المرأة التي بدأت تستسلم وتنقل عفش مكاتبها، عادت عن قرارها بعد أن سمعت أديل في فقرتها مع عادل كرم تقدّم حلولاً جذرية لكلّ النساء المعنّفات في منازلهنّ، مثل الدفاع عن النفس وضرب الزوج بقفا اسكربينة أو قبقاب ضمن قالب من الضحك العفوي والشعبوي... وصراحة، في استديو «هيدا حكي» كانت هذه من اللحظات التلفزيونية النادرة التي يتمّ تناول موضوع العنف الأسري بهذه الطريقة، وضخّ كميّة من الثقة والتمرّد في نفس كلّ مشاهدة معنّفة... لأنّ النساء شبعت تنظيراً وسن قوانين تالفة وكترة حكي.
في الحلقة الاخيرة من «هيدا حكي» أدركنا كم نحن بحاجة لأن نبكي على وضعنا، لا أن نضحك... أدركنا كم هي كثيرة المواضيع التي يعلكها الإعلام بلا أن يهضمها... وأدركنا كم هي بحاجة الكوميديا في لبنان إلى إعلاميين شجعان مثل عادل كرم، مستعدّين للتنازل عن كرسيهم من اجل موهبة صاعدة وواعدة تنافسهم في عقر دارهم وفي كارهم... وكم نحن بحاجة إلى إعلاميين يكملون مسيرتهم المهنية بلا مبخرة، جمراتها دائماً جاهزة.
وإذا كانت السياسة عالقة في جيوب سياسيين لا يبغون التغيير، نأمل أن تعلق صناعة الضحكة على ألسنة مقدّمين وإعلاميين وممثلين مثل عادل كرم، يسخّرون الكوميديا للتحدّث بصوت الناس، هذا الفنّ الذي يخدم مبتغاه من دون أن يفقد معناه.