إنّ التحرك المستمر لتشكيل حكومة جديدة تواكب انطلاق العهد الرئاسي بات اليوم جامداً، وإن استمر، وذلك عند نقاط خلافية ومطالبات منوَّعة. وهذا مرده الى عدم الاحتكام الى النصوص الدستورية المرعيّة والمنطق الميثاقي المتعارَف عليه.
وعمليةُ التشكيل تصبح واقعة في التشكيك يوم يحصل ما يحصل من مدّ وجزر من دون نتائج موضوعية ملموسة. وهذا ما لا يُنتج سياسة صحيحة أو يدعم اقتصاداً منتجاً أو يرسم تشريعات تُحدِث البنى المؤسساتية والوطنية.
إنه مأزق فعلي يوم تختلط القواعد الآمرة في الدستور مع توجّهات وتوجيهات... يوم نصبح أسرى المواقف المتنافرة والمواقع المتباعدة، بينما النصوص الدستورية واضحة في منحها الصلاحيات الحصرية في تشكيل الحكومة الى رئيس الجمهورية كرأس للدولة، وذلك بالاتفاق مع رئيس الحكومة المكلَّف.
إذاً الصلاحية الضرورية معطاة الى الرئيس. أما الصلاحية المكملة فممنوحة الى رئيس الحكومة المكلَّف. بمعنى أن يأتي التشكيل نتيجة توافق بينهما، وذلك بصفتيهما الدستورية والتمثيلية الميثاقية، مما يفتح المجال أمام تشاورٍ وطني يعطي «للمسؤولين» عن التشكيل مجالاً للوقوف على رأي القيادات والأحزاب، خصوصاً تلك الممثلة في البرلمان، من دون أن يشكل هذا «الوقوف» على الرأي مجالَ إلزامٍ قانوني أو معنويّ، إلّا في ما يتعلّق بضرورة تأمين أوسع قدر ممكن من الدعم النيابي الذي يتبلور من خلال أكبر عدد ممكن من مانحي الثقة.
من هنا، يقع على عاتقيهما بالتكافل والتضامن أن يشكّلا وأن يؤمِّنا للتشكيلة الحكومية القدرة على الحصول على الثقة وعلى الإنتاجية من خلال تأمين حدّ أدنى من التجانس بين أعضائها بصرف النظر عن انتماءاتهم.
كلّ ذلك يشير صراحة، وحسب النصّ الدستوري المرعي الإجراء والمعمول به، الى أنّ المسؤولين الأساسيين والحصريين عن التشكيل كإجراء دستوري يوجبه النص صراحة، هما الرئيس ورئيس الحكومة المكلَّف.
ولكن ما يعوق الممارسة الدستورية بشكلها المبسّط والمنطقي في العلم الدستوري، يكمن في تداخل العوامل المختلفة مع الأصول الدستورية بشكل أصبح كلُّ تشكيلٍ لكلِّ حكومة (بعد العصر السوري طبعاً) مسارَ جدل ومطالبات لا طائل منها وتبادل شروط في غير موقعها ومواقيتها.
ولكنّ السؤال الذي يَطرح ذاته يتمحور حول إمكانية تشكيل حكومة باتفاق ثنائي من دون موافقة القوى المؤثّرة الأخرى؟ خصوصاً أننا بتنا ومن دون شك أو تحليل، نعيش في مظهرٍ جليٍّ من مظاهر تعدّدية واسعة تلامس أحياناً حدود الفدرالية الطائفية التي تعبّر عنها وتنظمها قوانين الأحوال الشخصية المعمول بها، إضافة الى النظام الطائفي الذي ينظم حياتنا المؤسساتية والسياسية.
طبعاً، إنّ المسألة ليست بهذه البساطة. إذ إنّ التزاوج بين «الدستورية» و»الميثاقية» ليس سهلاً من الناحية العملية في ظلّ هذا الكمّ من النفور السياسي والاصطفافات التي ارتدت طابعاً آخر.
وبما أنّ كلَّ فريق يتمسّك بأسماء مستوزريه ويطمح الى إسناد حقائب معيّنة لهم، فإنّ ذلك ينتقص فعلياً من الدور الأساس والحصري الذي أشار اليه النصّ الدستوري لناحية دور الرئيس ورئيس الحكومة المكلَّف، بمعنى أن تكون هذه السلطة التقديرية مفتوحة لهما، على أن يمارس مجلس النواب دوراً رقابياً، إذا جاز التعبير، على هذا الخيار من خلال منح أو حجب الثقة عن التشكيلة الحكومية المعلنة.
هذا كان جائزاً لو كنا نعيش في ظلّ نظام برلماني كامل المواصفات، وبحجة أولى لو كان النظام السياسي بالممارسة قائماً بشكل مركزي وبشكل كبير على الأحزاب السياسية. ولكن وبما أننا نعيش في ظلّ نظام شبه برلماني دستورياً وشبه مشتّت سياسياً. فإنّ الصلاحية الحصرية التي منحها وحدّدها الدستور تصبح مشروطة وبالحدّ الأدنى، بتأمين غطاء ميثاقي للتشكيلة الحكومية قبل طلب منح الثقة لها من مجلس النواب.
في الخلاصة، يُستنتج أنّ دور رئيس الجمهورية مركزي كسلطة دستورية ممنوح لها تشكيل الحكومة بالاتفاق مع رئيس الحكومة المكلَّف، وهذا الدور المركزي لا تحدّه أيّ سلطة حسب النص الدستوري، ولكنّ البعد الميثاقي الدقيق يجعل هذه السلطة الدستورية «المطلقة» مضطرة الى مراعاة بعض المكوّنات الأساسية، إلّا إذا قرّر السير بحكومة تكنوقراط، عندئذ تخرج البلاد من قمقم المطالبات المتبادَلة ومن مفاهيم «السيادية» و«الخدماتية» التي لا تستند الى أيّ منطق أو نص، وتلج الى واقع الاختصاصات والوزراء غير المرشحين الى النيابة، مع ما لذلك من منافع سياسية واقتصادية.