أما وقد قلبت البلاد صفحة انتخاب رئيس الجمهورية وأطلّت على حكومة العهد الأولى، أو الأصح حكومة الانتخابات، فيحضر، المراقبين كما متعاطي الشأن العام، السؤال البديهي: أي كيمياء ستجمع بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس مجلس الوزراء سعد الحريري؟
فلنقرّ بادئ ذي بدء، في ما يتصل برأس السلطة، أن العماد عون بقي في الرابية، والمنتقل الى بعبدا هو عون رئيسا، بما يعنيه ذلك من رمزية يفترض أن تحافظ على المسافة واحدة من الجميع، تشريعيا وتنفيذيا، وكذا قضائيا وسياسيا. وإذا كانت الرئاسة تقتضي رؤية ثاقبة وميزانا من ذهب لا تميل إحدى دفتيه، فإن المعروف عن عون أنه ليس من طينة الرؤساء الذين لا يحكمون، أو على الأقل هذا ما تشي به سيرته، قائدا ثم زعيما فرئيسا.
وتأسيسا على هذا، لا ينفك مغرضون يراهنون على أن الحذر لن يلبث أن يفيق عند عون، حيال بري والحريري، سواء بسواء. فهو، وإن يكن استكان نسبيا بعد تبوئه السدة الأولى، لن يقوى على تجاوز ماضٍ لم يمضِ على الأرجح مع كليهما، لا ينقص لاستحضاره إلا شرارة قد يشعلها أول ملف خلافي.
على جبهة بري، يحلو للمراهنين استعادة صفحات غير مشرقة من العلاقة الملتبسة بعون، نائبا ورئيسا لتكتل عريض وزعيما، سادتها غيوم ملبدة وارتفعت في أجوائها غبار معارك ليس أقلها في انتخابات جزين عامي 2005 و2009، مع ما سبقها ورافقها وتفرع منها من ندوب، تحولت في بعض مفاصلها، أو كادت، الى شروخ لما اكتسبته من طابع تحدّ واستفزاز لكل منهما.
وعند المشكّكين في الكيمياء المفترضة بينهما، أن بري مدوّر الزوايا الحاذق و"خيميائي" السياسة، لا جوامع مشتركة قطعا تربطه بعون، الرافض أصلا مبدأ تدوير الزوايا، باعتباره التفافا على المشكلة لا حلا لها. صحيح أن الرجلين تنشّأا كلاهما على الأنظمة والقوانين، الأول في كلية الحقوق والعلوم السياسية والثاني في الكلية الحربية والمؤسسة العسكرية، إلا أن البون شاسع في تطبيق كل منهما لما تشرّبه من مبادئ منذ يفاعه. ولئن كانت السياسة تجمعهما، فقد بدا أن نهج التفكير والتعبير والعمل مغاير بين عون الذي صار "فخامة الرئيس" ولا يزال الجميع يدعونه الجنرال، وبري الذي هو "دولة الرئيس" ولا يزال القريبون منه يدعونه "الأستاذ"، ولعلّ في هذا دلالة على أن الطبع لا بد أن يغلب التطبع، واستتباعا، ان المنصب لا يمحو من ماضي من تبوأه ما كانه، بل يبقيه ويضيف اليه ما صاره. ولا يتأخر المتشائمون في هذا المجال، في الاستدلال على الكيمياء المفقودة بما قاله عون في بكركي أخيرا، والرد المدوّي من عين التينة، بما يشي بحساسية مفرطة بينهما.
أما المتفائلون، فيجزمون بأن عون ليس في وارد نسف الجسور مع بري في مطلع عهده، أيا تكن الدوافع، ولا الأخير مستعد لذلك، ما دام ضامنا حصته الوازنة في الحكومة وولاية جديدة على رأس المجلس، ومنتزعا اعتراف الأقربين والأبعدين بأنه عرّاب لكل الحلول ومهندس لكل المخارج لا استغناء عنه، ماضيا وحاضرا ومستقبلا. والواقع أن كثيرين يقرّون بأن لوحة الحكم في لبنان لا تكتمل ألوانها من دون بري الذي تعوّد أن يكون رأس السلطة الرسمية الشيعية منذ مطلع التسعينيات. ويشفع له، الى خفة ظله وروحه المرحة في أحلك الظروف، أنه خير من يمسك مجلس النواب ويتقن اللعبة البرلمانية ويدوزنها على إيقاع مطرقته.
وبالانتقال الى ضفة الحريري، ليس المشهد أقل ضبابية. في عرف المتشائمين أن الوقيعة واقعة لا محال مع عون، باعتبار أن ما يفرّق الرجلين في السياسة أكثر مما يجمعهما. وتكفي العودة الى "الإبراء المستحيل" وقصة الـ11 مليار دولار الشهيرة وقطع حساب الموازنات لسنين خلت، للدلالة على اتساع الهوة بين السياستين. ولا حاجة بطالب البراهين للعودة الى الحروب السياسية التي خيضت بين "التيار الوطني الحر" و"تيار المستقبل" لاستجلاء ملامح التباعد على أكثر من صعيد.
أما المتفائلون، فلا تنقصهم الحجج لمدّ الكيمياء بين عون والحريري بكل أنواع المقويات والمغذيات ومسوّغات البقاء. ومن هذا القول إن رئيس الجمهورية لن يوفر سبيلا لتحصين علاقته بالرئاسة الثالثة، ومعاملة الحريري، الطري العود نسبيا في السياسة، كابن له، يحرص على إنجاحه في رئاسة الحكومة التي هي أحد أركان العهد. ثم إنه لن ينسى أن دعم الحريري لترشيحه للرئاسة الأولى كان له ما كان في إيصاله، بموجب اتفاق على التعاون بينهما، وعون ليس ممن ينكلون بعهد متى قطعوه. وما ينطبق على رئيس الجمهورية ينسحب على رئيس الحكومة الذي يحدوه أمل جارف في تعويم نفسه شعبيا وسياسيا بعد تفسّخ منهك كاد يتحوّل ضمورا في السنتين الأخيرتين. وهو في سبيل ذلك لن يدخر غاليا ولا نفيسا إلا سيبذله، ولو من منطلق التضحية، مع إدراكه سلفا أن مجالات التعاون مع الرئيس واسعة ومهيأة، والطرق معبدة ما دامت النيات حسنة.
يبقى أن كيمياء السياسة شيء وسياسة الكيمياء شيء، إذا خابت الأولى فقد تصيب الثانية، اللهمّ إذا سعى السعاة على الخطوط المقفلة والسبل المسدودة. فمن تراه يصيب، المتشائمون أم المتفائلون؟