مشاعر يخالطها الفرح والحزن في آن، النصر والاحباط معاً... باختصار هذا هو حال اللاجئين او "الضيوف" العراقيين في بلدة القليعة الجنوبية لدى مشاهدتهم تحرير سهل نينوى في العراق من "داعش" حيث قراهم ومنازلهم وأرزاقهم.
بحسرة يتحدّثون عن منازلهم التي أحرقها "داعش" قبل مغادرته هذه المنطقة وخصوصاً البلدات المسيحية منها، وبينها قرقوش كبرى هذه البلدات التي تعدّ أكثر من ستين الف عراقي تشتّتوا بين لبنان والاردن وتركيا وأربيل فضلا عن استراليا واوروبا.
نُهبت منازلهم وحُرقت، ومن تفقّدها من أقاربهم الذين يقيمون في أربيل اكتشف دهاليز محفورة داخل المنازل تتّصل بعضها ببعض كأنّها مراكز عسكرية ذات بنى تحتية لداعش يختبئ فيها ويهاجم منها محاولا تدمير أي فرصة لعودة أصحابها، فحرَقها كلّها بالطريقة عينها!
ترك هذا المشهد آثاراً سلبية في نفوس أصحاب الأرض والدار الذين حسموا قرارهم بعدم العودة، فالعراق بالنسبة إليهم لم يعد عراقهم، لم يعد هويتهم، لم يعد أمانهم، عراقهم "مات"! عراق اليوم هو "عراق الأفكار الداعشية التي تغلغلت في النفوس"، على حد وصف أحدهم والذي يضيف " عراق اليوم أشبه بكرسي يتّسع لشخص واحد وقد احتلّها من احتلّها، فلا مكان لنا بعد اليوم". شعور حزين لدى العراقيين بفقدان رغبتهم بالعودة، وجلّ ما يحلمون به وطن يوفّر لهم الكرامة ومستقبلا آمنا لهم ولأطفالهم.
ستون عائلة عراقية تسكن في القليعة منذ بداية الاحداث أي منذ نحو عامين وتنعم بعاطفة واحتضان من قبل الكنيسة وأهالي البلدة، انخرطت سريعا في الحياة الاجتماعية والعادات والتقاليد وأصبحت جزءاً من نسيج هذه البلدة وأهلها، وصولاً الى حالات زواج مشتركة. ولولا غلاء المعيشة والمستقبل المجهول لفضّلوا البقاء الى الابد في بلد الارز، الا أن عدم استقرار الوضع يدفعهم الى التفتيش عن بلد يضمن مستقبلهم، لذا تقدّموا جميعا بطلبات هجرة الى دول تستضيفهم. ورغم ان معظم دول "العالم الأوّل" التي شرّعت أبوابها على مصراعيها أمام اللاجئين السوريين وأهملت قضية مئات آلاف العراقيين المسيحيين الذين تشتّتوا بعيدا عن وطنهم الأم، ورغم اهمال المؤسسات الانسانية الدولية عن مساعدتهم، فقد تمكّنت تسع عائلات فقط حتى اليوم من الهجرة الى استراليا بعد توفّر كفيل لكلّ منها أي أحد الأقارب من الدرجة الاولى فيما تنتظر العائلات الأخرى من يكفلها للهجرة أيضا بحثا عن الأمان والاستقرار.
اذا العودة الى العراق مستحيلة حتى ولو توفّرت ظروف اعادة الاعمار، وأُعيدت منازلهم كما في السابق، فالانتماء فقد هويّته، والشعور بالوطن لم يعد ينحصر بالحيّز الجغرافي أو التاريخي، إنه مخزون في الذاكرة لا يُمحى الا أنّه أصبح ملازما لمفهوم "الأمان" أينما وُجد... الإيمان هو سلاحهم، ودرب الجلجة مسار طويل يحملونه بألم وصبر وثبات، فهم يؤمنون بقول السيد المسيح "سيطردونكم من مدينة الى مدينة"، وها هم يتنقّلون بحثا عن الأمان...
يجتمع العراقيون دورياً، يتبادلون صور منازلهم المحترقة ويتابعون عبر وسائل الاعلام او وسائل التواصل الاجتماعي آخر الأخبار الواردة من منطقتهم التي انسحب منها داعش، وتتولّى حفظ الامن فيها حاليا وحدات حماية سهل نينوى التابعة للحركة الديموقراطية الأشورية المعروفة بـ "NPU"، والتي تسعى للمحافظة على ما تبقّى من المنازل ومحتوياتها بعد سرقة داعش الجزء الاكبر منها.
يجمعون على رفضهم العودة ويؤيّدون بعضهم في أن العراق لم ولن يعود كالسابق ويتناقشون حول رؤيتهم للعراق اليوم والمستقبل، فهاجسهم هو اطفالهم لا سيّما أنّ اكثرية هذه العائلات فتيّة ولديها أطفال.
دريد، أو "عميد" اللاجئين العراقيين في القليعة، كان أول من لبّى نداء مساعد كاهن الرعية الخوري بيار الراعي الذي فتح ابواب البلدة لاستضافتهم في البلدة بعيداً عن بيروت وحياة المدينة الباهظة الثمن، فنقل عائلته من بيروت الى القليعة في 28 آب 2014 أي منذ عامين وثلاثة أشهر، وأبصرت ابنته النور في البلدة فأطلق عليها اسم سيدرا تيمّنا ببلد الأرز، يعبّر بحزن عن مشاعره، فبالنسبة إليه لم يعد العراق كما كان، وهو باقٍ في لبنان الى حين الهجرة الى الخارج، "المستقبل ضائع بالنسبة لنا" على حد قوله. ويعقّب ثائر قائلاً: "العودة الى الوطن هي عودة الوطن، واذا عاد الوطن عدنا نحن، ولكن حتى الساعة فالوطن لم يعد وطنا"، وأضاف: "ما يهمّنا هو اولادنا وأمنهم ومستقبلهم. أنا سعيد بوجودي هنا لأن أولادي يتابعون تحصيلهم العلمي بشكل جدّي، وإبني نال المرتبة الثالثة في الرسم في لبنان في المسابقة التي نظّمتها وزارة التربية اللبنانية. كنت أرغب ان يترعرع أولادي في لبنان الا أن المستقبل غامض بالنسبة إلينا، وقد لا يتمكّنون من متابعة تحصيلهم العلمي أو الحصول على وظائف".
وتعليقاً على كيفية تلقّي مشاهد تحرير قرقوش أو بغديدا من "داعش" قال دريد: "كان مزيجا من الفرح والحزن. فرحنا بتحرير منطقتنا من داعش الذي طردنا من أرضنا ومنازلنا وبلدنا، لكنّ فرحتنا لم تكتمل في ظلّ عدم القدرة على العودة".
وعمّا اذا كان هناك من يمنعهم حقّا من العودة قالت أحلام وهي مدرّسة في القطاع العام: "لا أحد يمنعنا علناً ولكن نفوس الناس قد تغيّرت، فهذه ارضنا وفيها ذكرياتنا وجنى عمرنا، واذا نحن عدنا فأهل بلدتنا تبعثروا بعيدا ومعظمهم لن يعود، فماذا سيعني لي الوطن حينها؟".
وأضافت: "كل من تفقّد قرقوش بعد تحريرها بكى حزنًا وقرّر حينها عدم العودة اطلاقا، فلكلّ إنسان كرامته وأهميته". وهل ستنسَين العراق؟ فأجابت: "اريد ان أعيش في بلد يحترمني ويصون كرامتي، ولكن ما الحبّ الا للحبيب الاوّل".
ويشاركهم الرأي ميسم الذي يريد توفير مستقبل آمن لطفلتيه، وهو أمر مستحيل في العراق حيث انعدمت الثقة بمقوّمات وطن يحترم مواطنيه دون تمييز بين طائفة ودين ومذهب.
مئات الآلاف من العراقيين المسيحيين شتّتهم "داعش" وفق خطة منظّمة لتفريغ العراق من المسيحيين، وهو الامر الذي سبقته هجرات عديدة في السنوات السابقة في ظلّ صمت دولي وقلّة اهتمام واكتراث ممّن يدّعي حقوق الانسان وحقوق المسيحيين لجهة مساعدة هؤلاء الذين يشكّلون جزءاً ومكوّناً أساسياً من نسيج العراق وليسوا دخلاء عليه. والخوف الذي يبديه البعض هو من سياسة دولية تقضي بتفريغ الشرق من المسيحيين فيكون العراق أوّل بلد تنجح فيه هذه السياسة...