بعد مرور شهر على انتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية في 31 أكتوبر، يتراجع التفاؤل بإمكانية إطلاق دينامية جديدة على المستوى الدستوري والسياسي، وسط حصار يحاول الإطباق على عهد الرئيس عون بأيدي من يفترض أنهم حلفاؤه الذين دعموا خيار وصوله إلى الجمهورية، وتحديدا حزب الله.
ومنذ تكليف الرئيس سعد الحريري بتأليف الحكومة برزت العقبات أمام عملية التأليف وبدأت تتناسل، ظاهرها يتصل بالحقائب الوزارية ومن يتولاها، لكن بداية أسقط حزب الله وحليفه رئيس مجلس النواب فكرة تشكيل حكومة من الموالاة، تعارضها الأقلية في مجلس النواب، لحساب تثبيت حكومة تجمع كل القوى الممثلة في البرلمان بحيث تتحول إلى برلمان مصغر يمنع أي إمكانية لمحاسبة الحكومة في البرلمان. ثم بدأت عملية التصويب على التحالف الذي جمع حزب القوات اللبنانية الذي يرأسه سمير جعجع، والتيار الوطني الحر الذي يرأسه وزير الخارجية جبران باسيل، وهو التيار الذي أسسه الرئيس عون ولا يزال القائد الفعلي له.
عملية التصويب هذه تركزت على منع القوات اللبنانية من تولي وزارة سيادية. ثم جرى الاعتراض السياسي من “الثنائية الشيعية” على عدد الحقائب التي يمكن أن تنالها القوات في الحكومة الجديدة كترجمة لتحالفها مع الرئيس. بعدها استخدمت الثنائية عقدة توزير النائب سليمان فرنجية كرأس حربة، بحيث ربط الرئيس بري تمثيله بالحكومة بتولي فرنجية أو من يمثله وزارة أساسية فيها.
هذه المطالب كانت ولا تزال تتصاعد من قبل الرئيس بري، والأخير مكلف من قبل حزب الله بتولي إدارة عملية التأليف، والنطق باسمه في ما يتصل بالحكومة المزمعة. حكومة تتجه نحو المزيد من التأخير قبل ولادتها، وكل المؤشرات في بيروت تدل على أن عملية تعطيل ممنهج تتم تحت ستار الحصص لأسباب أخرى أعمق وأكثر أهمية من مسألة الحقائب الوزارية.
بداية لا بد من الإشارة إلى أن التمثيل الشيعي في الحكومة، ولا سيما حزب الله، لم يكن يوما هو مصدر قوة حزب الله في السلطة التنفيذية أو على مستوى القرار في لبنان، إذ طالما كان لحزب الله في الحد الأقصى وزيران في الحكومة المؤلفة من 30 وزيرا أو من 24 وزيرا خلال السنوات العشر الماضية، هذا العدد لا يقرر، نظريا، مسار القرار في الحكومة، لكن عمليا الحكومات المتعاقبة كانت بإمرة حزب الله إلى حدّ كبير أو في الحد الأدنى لم تتجرأ على إصدار قرار لا يوافق عليه الحزب، أو قد يشكل تحديا لنفوذه.
من هنا تنطلق سطوة حزب الله من موازين قوى على الأرض لا من المؤسسات الدستورية ولا على صعيد اللعبة الديمقراطية، وهذه الحقيقة غير الديمقراطية وغير القانونية، هي التي ينبه حزب الله اليوم إلى خطورة تجاوزها، لكن من الذي يريد تجاوزها؟
يكفي أن يقول رئيس الجمهورية ميشال عون في خطاب القسم إنه يريد تطبيق الدستور، ليثير ريبة حزب الله. فكيف إذا كانت رافعة الرئاسة الأولى بعد وصول الجنرال عون إليها، التفافا مسيحيا واسعا وغير مسبوق تجاهه؟ التفاف يحركه طموح مسيحي باستعادة وهج الرئاسة الأولى، وتعزيز مشروع الدولة التي يعتقد كل مسيحي في لبنان أنها حصنه في هذا الشرق ورأس أيّ مشروع مسيحي في لبنان.
وإلى هذا لم يتهيب ميشال عون الموقف عندما قارب مسألة المقاومة في خطاب القسم، فنزع عنها صفة اسم العلم واعتبرها رد فعل طبيعيا للمجتمع تجاه أي احتلال لأراضيه، بل هو لم يذكر أي كلمة عن المقاومة في ذكرى عيد الاستقلال.
رد حزب الله غير المباشر كان العرض العسكري الذي أقامه على الحدود اللبنانية – السورية بالتزامن مع استلام العماد عون سدة الرئاسة، للقول إن انتخاب عون رئيسا للجمهورية لا يعني أن القرار أصبح في بعبدا. العرض العسكري لحزب الله والشروط التعجيزية لبري، وغيرها من المواقف في وجه رئيس الدولة والرئيس المكلف، ليست فقط محاولة لتطويق العهد سياسيا إنما أيضا لإضعافه وتجويفه من الداخل.
وما الفيتو الذي يضعه حزب الله والرئيس برّي على علاقات التيار الوطني الحرّ مع القوات اللبنانية من خلال منع الأخيرة من التمثل حسب اتفاقها مع عون في الحكومة، بحقيبة سيادية، سوى دليل على محاولة انتزاع عناصر القوة من الرئيس عون.
وما أزعج حزب الله وزاد في عرقلة تأليف الحكومة، هو الانفتاح الخليجي ولا سيما السعودي على عهد الرئيس عون. احتضان فاجأ الكثيرين وكان آخر فصوله زيارة الأمير خالد الفيصل ممثلا للملك سلمان بن عبدالعزيز إلى لبنان وتوجيهه دعوة للرئيس عون باسم الملك لزيارة المملكة. وألحقت هذه الزيارة بزيارة وزير خارجية قطر.
كل ذلك يترافق مع اهتمام من قبل الرئيسين عون والحريري، بإعادة تنشيط العلاقة اللبنانية الخليجية، في سياق العمل على الحدّ من الانهيار الاقتصادي الذي يهدد لبنان بكوارث مالية واجتماعية. لذا لم يُخف القريبون من العهد أن تكون زيارة السعودية أول زيارة يقوم بها رئيس الجمهورية إلى خارج لبنان.
المعادلة التي يريد رئيس الجمهورية تثبيتها كما عبر عن ذلك في خطاب القسم أو في خطاب الاستقلال، هي إعادة الزخم لمشروع الدولة، عبر الانطلاق من تطبيق الدستور والقانون. وهذا الطموح الرئاسي الذي يلاقيه الرئيس المكلف سعد الحريري، يصطدم اليوم بالسلطة الفعلية في لبنان، أي سلطة الدويلة التي يقودها حزب الله.
فالجميع يعلم أنه منذ أحداث 7 مايو عام 2008 وما تلاها في اتفاق الدوحة، رسخ حزب الله واقعا في المعادلة السياسية لم يزل قائما، وهو أن السلطة ليست بيد من يمتلك الأكثرية النيابية، ولا تشكل نسب التمثيل في مجلس الوزراء معيارا لنفوذ ودور في السلطة، السلطة في مكان آخر لا يحددها الدستور ولا القانون، بل السلطة على الأرض.
ثمة صعود لقوة مسيحية سياسية يمثلها الرئيس ميشال عون ويلتف حوله معظم المسيحيين. وما يعزز من تماسك هذه الكتلة المسيحية التي وجدت لها فرصة في استعادة زخمها من خلال الرئيس عون، أن الدولة في أسوأ أحوالها الدستورية والقانونية والاقتصادية، وأن مشروع الدويلة التي يمثلها حزب الله هو العائق الموضوعي أمام قيامها.
ولو كان التحالف بين الرئيس عون وحزب الله سببا أساسيا من أسباب وصول عون إلى الرئاسة، إلا أن هذه المعطيات الموضوعية تفرض نفسها حتى على الحلفاء. فالرئيس عون، ومن خلفه المسيحيون، يدرك أن انطلاقة العهد ونجاحه باتا مسألة وجودية، تتجاوز كل التحالفات السابقة لتفتح الباب على تحالفات جديدة بشرط الدولة لا الدويلة.
المعركة اليوم يجري الترميز لها بصراع بين مسيحية سياسية صاعدة، وشيعية سياسية تتلمس خطر هذا الصعود. وهذا بحدّ ذاته يجعل من إمكانية الخروج من مأزق التأليف أمرا دونه مصاعب، إما تطويع حزب الله باتجاه الدخول في خيار الدولة، وإما جرّ الرئيس عون إلى أن يقدم الولاء وفروض الطاعة للدويلة. الأمر في لبنان عند هذا الحد… هكذا كان منذ 11 عاما ولا يزال، لكن الجديد أن الغطاء المسيحي لمشروع الدويلة يُسحب تدريجا.
صحيفة العرب