لم يعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين معنيًا بمواقف الدول الكبرى ومؤسساتها الدولية والإقليمية٬ إن كانت متواطئة معه في حربه على ثورة الشعب السوري٬ وقبولها ا لوجهة نظر الكرملين٬ أو إن كان جز ًءا من هذا الصمت العالمي عما يجري الآن في حلب لا يخلو من الخبث والتآمر على موسكو من أجل الضمني في إنهاء النزاع وفقً ج ّرها إلى مزيد من الغرق في المستنقع السوري٬ فالرئيس الروسي بكل ما يملك من قوة عسكرية بحرية وجوية وبرية٬ لن يتوقف تدخله في سوريا قبل أن يتمكن من إخراج آخر مقاتل للمعارضة السورية من مدينة حلب٬ حيًا كان أو ميتًا.
فقد التقط بوتين الإشارة باك ًرا منذ أن تخلى باراك أوباما عن معاقبة الأسد على استخدامه السلاح الكيماوي ضد مواطنيه٬ وأيقن أن العالم ترك السوريين يواجهون وحدهم مصيرهم المجهول٬ وأن الرأي العام الدولي المنشغل في تحديد أولوياته الاستراتيجية بين الإرهاب والاستبداد٬ لن يخرج رأسه من الرمال قبل إعلان موسكو انتصارها في حلب٬ فبعض ما تكتبه الصحف الأميركية والأوروبية٬ إضافة إلى بعض التصريحات المتفرقة الخجولة٬ لن تدفع بوتين إلى التريث أو التفكير بتخفيف اندفاعه أو خفض مستوى ٍع حثيثة يجريها وزير الخارجية الأميركي جون كيري٬ من نيرانه٬ فحتى اللحظة٬ لا توجد أي مؤشرات إيجابية من موسكو تجاه ما كشفته صحيفة «واشنطن بوست» عن مسا أجل التوصل إلى تسوية تفضي إلى إخراج مقاتلي جبهة فتح الشام من المدينة٬ وفك الحصار عن مناطق المعارضة٬ والتوصل إلى تسوية ميدانية تقطع الطريق على الروس ٍض في استغلال فرصة ذهبية٬ من في استغلال التقدم في حلب لإقناع ترامب بالتخلي عن دعم المعارضة٬ إلا أن القيصر المستمتع بأصوات مدافعه وغارات طيرانه٬ ما المستحيل أن تتاح مرة أخرى في ملء الفراغ الأميركي خلال مرحلة انتقالية بين إدارتين متناقضتين٬ تحول لأول مرة في التاريخ الأميركي إلى ضياع في القرارات والسياسات.
فبوتين المنشغل بالتجربة السوفياتية٬ يضغط من أجل السيطرة على الشطر الشرقي من مدينة حلب قبل دخول دونالد ترامب البيت الأبيض٬ ويتصرف من موقع القوي الذي يمتلك زمام المبادرة٬ غير مستعد أن يعطي خصومه الغربيين الفرصة كي يتمكنوا من عرقلة تقدمه العسكري الحاسم في الصراع السوري٬ والضغط عليه من أجل إبقاء أجزاء من المدينة خارج سيطرته٬ تتحول إلى موطئ قدم يستغلها بعض الصقور في إدارة ترامب والحزب الجمهوري وبعض من حلفائهم الأوروبيين الرافضين للتقارب مع موسكو٬ من أجل إضعاف موقع الكرملين التفاوضي.
فعلى الرغم من التقدم الميداني الحاسم٬ لا تخفي موسكو قلقها من خلفيات التصريح الأخير لوزير الخارجية البريطاني٬ بوريس جونسون٬ عن ضرورة الوقف الفوري لإطلاق النار في حلب وتجنب كارثة إنسانية٬ الذي تزامن مع قيام أكثر من 120 عض ًوا في مجلس العموم البريطاني بتقديم طلب إلى رئيسة الوزراء٬ تيريزا ماي٬ بإسقاط المساعدات الإنسانية ج ًوا فوق مناطق حلب المحاصرة٬ وجاء في نص الطلب أن «وقت الأعذار قد انتهى٬ وليس من المقبول أن نقف لنشاهد أكثر من 100 ألف طفل يواجهون موتًا بطيئًا قاسيًا٬ لأننا لا نستطيع أن نوفر لهم الإمدادات الطبية والغذائية»٬ حيث بات من غير الوارد في قناعات فلاديمير بوتين الاستراتيجية التراجع عن حلب والقبول ببرلين جديدة٬فبالنسبة للقيادة الروسية الحالية من غير الممكن الوقوع بالفخاخ نفسها التي نصبها الحلفاء للسوفيات في الأشهر الأخيرة من الحرب العالمية الثانية٬ عندما كان الجيش الأحمر المنتصر على الجبهة الشرقية على مسافة 60 كلم من عاصمة الرايخ الرابع برلين٬ بينما كانت قوات الحلفاء على الجبهة الغربية تبعد مسافة 400 كلم عنها٬ لكن القيادة السوفياتية أوقفت الزحف ووافقت على لقاء في يالطا 4 فبراير (شباط) 1945 يضم الرئيس الأميركي روزفلت٬ ورئيس الوزراء البريطاني تشرشل٬ والديكتاتور السوفياتي ستالين٬ الذين اتفقوا على رسم خريطة جيوسياسية جديدة للعالم ما بعد النازية٬ حيث كانت برلين أول ضحاياها بعد أن تحولت إلى خط التماس الذي قسم العالم طوال الحرب الباردة إلى معسكرين.
في يالطا٬ تعمد السوفيات ترك المخلفات العسكرية للجيش الألماني مرمية على جانبي الطريق المؤدي إلى قصر ليفاديا الذي عقد فيه الاجتماع الثلاثي٬ كي يظهروا للأميركيين والبريطانيين قوة الجيش السوفياتي٬ وانتشاره الواسع على كل جبهات أوروبا الشرقية٬ وهو ما يحاول الكرملين إعادة تمثيله٬ فهو يستعرض في حلب أضخم وأهم ما توصلت إليه التكنولوجيا العسكرية الروسية٬ ويعمل على إظهار ضعف المعارضة وتقهقرها٬ لكنه لن يتردد في دخول المدينة٬ فهي باعتقاده المعبر الوحيد إلى يالطا جديدة.