حين طالب الرئيس نبيه بري بـ"سلّة" قبل انتخاب عون، لم يكن يريد حفظ حقوقه الوزارية، ولا خطر في باله توزيع الحقائب. كان يعرف أنّ وصول عون "حرّاً" إلى بعبدا سيجعل العلاقة معه صعبة، ووصوله مدعوماً من سمير جعجع، سيجعله أقوى بكثير. كانت السلّة اسمًا حركيًّا لِما ظنّ البعض أنّه "مؤتمر تأسيسي" يريده الشيعة لتقريش مكاسبهم داخل أسس النظام اللبناني. لكن أيضاً لا. المسألة أبعد من هذا قليلا.
أراد برّي تقييد عون بتفاهمات مسبقة لئلا يُغرق العهد خصومه بالقسوة، قسوة لم تتأخر حتى تطلّ برأسها رغبةً في "تطهير المؤسسات من الفساد" بحسب عون.
أكمل جعجع الكلام قائلا: "عقلية الوصاية السورية في تشكيل الحكومات انتهت"، ثم أكمل عون: "الـ20 % الذين لم ينتخبونا هم شبكات مافيا فاسدة سنحاربها". وأحد المخضرمين يشرح في المشهد السياسي: "إنّه يتحدّث عن حركة أمل والقومي والبعث والمردة، فهل هؤلاء ملائكة أم عليهم شُبهات فاسدة تاريخية في المؤسسات؟".
هؤلاء هم معظم الـ44 ورقة بيضاء الذين لم ينتخبوا عون في جلسة انتخاب الرئيس بتاريخ 31 تشرين الأول 2016، وهم يشكّلون ثلث مجلس النواب تقريباً؛ أكثر من 20 %، وتحديداً 36 ورقة بيضاء و7 أوراق ملغاة، و28 % هي نسبة الأوراق البيضاء.
الاتفاق على "مرجعية الطائف" في التسوية الجديدة جعلت المتبارين يعودون إلى قواعدهم مع صرير أسنان ونظرات غاضبة واستعداد للهجوم في أيّ لحظة، باطنه الخلاف حول "كيفية" تطبيق الطائف. وما يفعله نبيه برّي هو صياغة فهرس "قواعد التعامل مع العهد"، أو بكلام آخر، في حين يريد عون "تطبيق الطائف" على الطريقة المارونية، بمحاولة استعادة صلاحيلات الرئيس "من خارج الكتيّب"، وذلك بالممارسة اليومية وبالعناد المتأصّل في شخصيته. في المقابل يواجهه برّي بالإصرار على "تطبيق الطائف" على الطريقة الشيعية، من خلال إلغاء الطائفية السياسية، وانتخابات على أساس النسبية، لن تكون نتيجتها النهائية أقلّ من إغراق المسيحيين بأصوات الشيعة والسنّة. ما سيجعل "المثالثة" جنّة مفقودة أمام الواقع الذي سيستجدّ. وسيكتشف جبران باسيل، عاجلا أم آجلا، أنّ سعيه لإعادة مئات آلاف المسيحيين إلى لبنان، وإشراكهم في الانتخابات بـ"تصويت المغتربين" بعد "استعادة الجنسية"، لهو وهم وحلم عميق.
ليست وزارة الأشغال يا عزيزي. إنّه الطائف؛ إنّه النظام السياسي برمّته ورميمه.
برّي حصل على تفويض مطلَق من حزب الله لحماية المكتسبات الشيعية في النظام السياسي.
عون يعرف أنّ بري هو "المخّ" وحزب الله هو "العضلات" المحلية والإقليمية. وبالتأليف، فحرصُ برّي على "المردة" هو صيانة ما تبقّى من موارنة في جيب حزب الله، بعدما تحرّر عون نسبياً بوصوله إلى بعبدا. وحِرص الحريري على الكتائب والمستقلّين هو صيانة ما تبقّى من موارنة في جيب الحريري. واستئساد عون وجعجع في إطلاق الرغبة المكبوتة بـ"إبادة" المردة والكتائب والمستقلين هو محاولة أولى على طريق "توحيد البندقية المسيحية"؛ بندقية لن تجد بوجهها غير برّي ومن ورائه حزب الله.
وقد يجد الحريري نفسه مرغماً على الانحياز لعون، رئيس الجمهورية، شريكه في التسوية، وزميله في "الدولة"، حينها قد نجد الشيعة مجدّداً في مواجهة "السلطة"...تماماً كما كان الحال مساء 5 شباط 1984.