استمعت المحكمة العسكريّة منذ فترة إلى إفادات المعنيين عما جرى في 14 كانون الأوّل 2014، حينما كان المفاوض الشيخ حسام الغالي في طريقه إلى جرود عرسال لاستكمال المفاوضات مع «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش» اللذين كانا يحتجزان عسكريين لبنانيين (أطلق لاحقا سراح من كانوا بعهدة «النصرة» فقط). انتهى استجواب الجميع ما عدا «نجم» هذا الملفّ: السوريّ محمّد يحيى الذي ضبط الجيش بحوزته حزاماً ناسفاً ومسدساً ورمّانات يدويّة.
الأمير الشرعيّ لـ «النّصرة» في عرسال محمد يحيى كان واحداً ممن سلّمتهم الدّولة اللبنانيّة إلى «النّصرة» في إطار تسوية إطلاق سراح العسكريين، وبالتالي كان «ضريبة قاسية دفعتها الدّولة اللبنانيّة»، وفق ما يردّد رئيس «العسكريّة» السّابق العميد الرّكن المتقاعد خليل إبراهيم.
اليوم، لم يبقَ مِن يحيى لدى الدّولة سوى إفادتَين يتيمتَين على الورق، وإفادة علقت جيّداً في رأس مَن حضروا الجلسة. لا ينسى ابراهيم حينما مَثَلَ واحدٌ من أبرز «الموقوفين الوقحين» أمامه. حينها، نظر يحيى بعيني الضابط الجالس أمامه والذي سأله عن سبب ارتدائه الحزام النّاسف بشكل دائم، من دون أن يتوانى عن الإجابة: «حزامي مثل بدلتك العسكريّة... هو أشبه بزيّ موحدّ للقيادات في الصف الأوّل والثاني» في التنظيم («النصرة»).
وفي هذه الإفادات كلها، تظهر أسرار يعرفها هذا الأمير الشرعي والمتحدّث باسم «النّصرة» في عرسال، باعتباره من الرّعيل الأوّل الذي بايع التنظيم ومن المقرّبين من أمير «النصرة» في القلمون أبو مالك التلّي.
بدأ محمد يحيى ابن الثلاثين عاماً تجربته مع «النصرة» بصفته مسؤولاً عن مجموعة عسكريّة مركزها بلدته السحل (ريف دمشق) ومحيطها، ومن خلال مشاركته في معارك عدة ومنها السيطرة على دير معلولا وتكليفه بحراسة الراهبات قبل أن يتمّ إخراجهنّ من الدّير.
بعد أن نال محمد ثقة أبو مالك التلّي الذي كان يمدّه بالمال، طلب منه الأخير التفرّغ لإعطاء الدروس الدينيّة والشرعيّة لعناصر التنظيم في الرنكوس، وذلك قبل أن يتم إخضاعهم لدورات عسكريّة متخصصة على يد المسؤول العسكريّ لـ «الجبهة» الملقّب بـ «أبو حفص».
لعب يحيى دوراً في معارك عرسال، حيث قام في اليوم الأوّل بتأمين حراسة «مسجد أبو طاقية»، المكان الذي كان يمكث فيه أبو مالك التلّي، الذي كلّفه بفتح أحد الأفران بالقوة رداً على قرار صاحبه بتخبئة الطحين ورفضه بيع الخبز للمسلحين. وبالفعل، نجح الترهيب والترغيب بـ «إقناع» صاحب الفرن بتوزيع الخبز على المسلحين كافة.
وفي اليوم التالي، غادر المسؤول الشرعيّ مع قياديي «النّصرة» حيث احتجزوا العسكريين في مغارتَين في جرود فليطا.
ولا يُخفي يحيى أنّه قابل أيضاً الموفد القطري الذي كان يأتي إلى عرسال محمّلاً بالمال وبمساعدات غذائيّة كان يعطي جزءاً منها للنازحين والآخر للمسلّحين في الجرود.
يؤكد الرجل في إفادته أنّه لا يملك معلومات بشأن تصفية العسكريين الشهيدَين محمّد حميّة وعلي البزال، إلا أنّه يؤكّد معرفته بقاتل الأخير وهو «أبو أنس» الذي عرفه من «الفيديو»، لكونه كان يحمل بندقيّة بيده اليمنى ولم يستخدم اليسرى لأنّها مبتورة، بالإضافة إلى إشارته بمعرفته ورؤيته لعدد من الانتحاريين الذين فجّروا أنفسهم في لبنان (كانتحاري الشويفات وآخر على حاجز عرسال).
وبحسب إفادة يحيى، فإنّ المهمّات الأمنيّة في لبنان كانت موكلة إلى مجموعة مؤلّفة من لبنانيين على رأسهم «أبو بلال» و «أبو عمر»، اللذان لا يختلطان كثيراً بالآخرين، فيما كان أبو مالك التلي ينسق مع «داعش» بغية استهداف قرىً لبنانيّة حدوديّة لا سيّما اللبوة.
«أنا الآمر الناهي»
أهالي عرسال والسوريون الذين يعيشون في البلدة يعرفون جيّداً من هو «أبو حسين جبهة» أو «أبو حسين السحل». وقْعُ هذا الاسم يهزّهم «فأنا كنتُ الآمر النّاهي». يدرك يحيى كيف يثبّت هيبته من خلال ارتدائه حزاما ناسفا مجهّزا للتفجير ليل نهار، بالإضافة إلى مسدّس «بكر» ورمانات يدويّة، واعتماده على تغيير سياراته وأماكن إقامته بشكلٍ دائم.
استفاد الشيخ الذي درس الهندسة في دمشق من صداقته بإمام مسجد عرسال الشيخ مصطفى الحجيري الملقّب بـ «أبو طاقية» حتّى أنه خصّص له جلسةً كلّ يوم جمعة داخل المسجد، للاستماع إلى شكاوى ومخالفات شرعيّة وأمنيّة واجتماعيّة وتزويده بأسماء «المخالفين»، والعمل على حل النزاعات بين السوريين أنفسهم وبينهم وبين أهالي عرسال. تخصّص يحيى في مشاكل التحرّش بالنّساء، وشتم الذّات الإلهيّة والأنبياء، والسرقة. والأهمّ ملاحقة «المخبرين» الذين يتعاملون مع الأجهزة الأمنيّة اللبنانيّة والسوريّة و «حزب الله».
لا يكتفي «أبو حسين» بحلّ النزاعات بالحُسنى، وإنّما يقوم وبإيعازٍ مباشر من أبو مالك التلّي بإجراء التحقيقات مع «المتّهمين» واحتجازهم وضربهم وتهديدهم بإرسالهم إلى الجرود كي ينالوا «الجزاء المناسب». ولذلك، في رقبة يحيى أكثر من رجل قامت «النّصرة» بتصفيته ونشرت صوره على مواقع التّواصل الاجتماعي بحجّة تواصله مع الجيش أو «حزب الله»، وندر أن يرسل يحيى وراء شخص الى المسجد من دون أن يحضر. ومن لا يأتي، تقتاده مجموعة يحيى الأمنيّة.
لم يكن يحيى يعمل وحيداً، بل كان بعض اللبنانيين يزوّدونه بأسماء «المشكوك» في أمرهم. واحدٌ من هؤلاء، بحسب إفادة يحيى، كان رئيس البلديّة الساّبق علي الحجيري الملقّب بـ «أبو عجينة». إذ قام الأخير وبعد أن سمع بصيته بطلب التعرّف إليه، ثمّ أرسل له لائحة دوّن عليها أسماء أربعة أشخاص، طالباً منه متابعة أمرهم لكونهم «مخبرين».
وبسبب «الضّغط الشديد»، تواصل «أبو حسين» مع أبو مالك التلّي كي يؤمّن له شخصاً متخصّصاً بالأمن. وبالفعل بعد مدّة وجيزة، صار ليحيى مساعد هو أبو البراء التلي، بالإضافة إلى تنسيقه مع «أبو الهمام» الذي كان مسؤولاً أمنياً في «النصرة» قبل أن ينشقّ ويعمل كمسؤول أمني لـ «داعش».
20 ألف دولار مقابل لقاء عسكريّ!
ومن أهمّ الاعترافات التي أقرّ بها يحيى، أن عائلة العسكريّ الذي كان مخطوفاً (جورج خوري) قد أعطت «أبو طاقية» 20 ألف دولار أميركي مقابل لقاء إبنها، في ما نفى «أبو طاقية» الأمر أمام يحيى الذي عرض بدوره الأمر على التلّي، ولكنّ الأخير قال: «ممنوع زيارة أي مخطوف».
الأبرز أنّ التلي طلب منه أن يشيع خبر تعرّض العسكريين للقصف بالصواريخ وإصابة عدد منهم من دون تحديد أسماء، وذلك بهدف قيام أهالي العسكريين المخطوفين بممارسة الضغط على الحكومة اللبنانية!

هيكليّة «النصرة»
يروي محمد يحيى أنّه بعد العام 2013 وعندما شعر أمير «النصرة» في القلمون ابو مالك التلّي أنّ «النصرة» صارت قويّة من الناحية البشريّة واللوجستيّة، بدأ بالتحضيرات لإعادة الهيكلة على مستوى القيادات في القلمون. لذلك، عيّن التلّي «أبو مسلم التّونسي» نائباً له، وشكّل لجنة شورى شرعيّة برئاسته وعضويّة «التونسي» والأمير الشرعيّ السعوديّ أبو معاذ الجزراوي (قُتل لاحقاً)، والأمير الشرعي الثاني «أبو عمر الأردني».
وبقرار من «لجنة الشورى»، تمّ تعيين يحيى مسؤولاً عن أمور الدّعوى والتّجنيد، وخصوصاً الانتقال بين مقار «الجيش السوريّ الحرّ» والفصائل المسلّحة الأخرى لحثّهم على الالتحاق بـ «النّصرة».

 

 - السفير -