عرفنا فيدال كاسترو من الشيوعيين اللبنانيين الذين انبهروا بشخصية ثورية محرّرة ومحقِّقة للدولة الاشتراكية. كان زمن الحرب الأهلية وقد رُسم رسمه على الحيطان، ومحا اسمه أسماء المقاتلين الذين استبدلوا أسماءهم الحقيقية باسم كاسترو من جماعة القوميين إلى أهل الماركسية المُصابة بداء العظمة للقائد البروليتاري وقد طُبعت صورته على أكثر من صدر وقميص وكان الكثيرون ممن حُمّلوا اسم كاسترو لا يعرفون عن فيدل شيئًا ولم يعرفوا عن الثورة الكوبية أكثر من اسمها، ولم يمسكوا الكتب الاشتراكية إلا اللمم منهم ممن اصطفاه الحزب كادراً في ورشة التنظيم .
لم يغِب كاستروا كثيراً عن اللبنانيين اليساريين، بقي معهم في الخنادق والمحاور والجبهات المفتوحة ضدّ نظامٍ لا يشبه نظام باتيستو البوليسي الذي أسقطه نضال الكوبيين الذين قادهم كاسترو إلى أحلامهم ومن ثمّ إلى حتفهم بعد قيام دولة الفقر في القارة الغنية . لم يتغير شيئًا على الكوبيين؛ بقي الفقر على ما هو عليه والفقراء يلفّون أغلى السجائر لأغنى الرأسماليين في العالم يشمّون رائحة أجود التبغ المسبوغ بعرق العمّال ولا يشربون إلاّ الرديء منه .
حفظنا عن ظهر قلب ما أنشده روّاد النشيد والأغنية الثورية من مرسيل خليفة إلى أحمد قعبور وخالد الهبر وما كتبه شعراء جيل القصيدة الثورية من محمود درويش إلى شوقي بزيع ومن معهم من كتّاب الحرب التي زفّتهم إلى جمهور الرصاص والبارود فرساناً للكلمة الملتزمة بأدب المقاومة .
كانت الرومانسية الثورية تحاكي كل شاب عاطل عن العمل وكل تلميذ وضعه الفقر على باب المدرسة الرسمية والجامعة اللبنانية وأهلته الحرب كي يكون شهيداً تشيّعه أيادي الأحزاب التي نمَت كالفطر على تراب المقابر . ومن الصعب أن تجد من لم تكبّله الأفكار الحزبية بسلاسل الكبار ممّن صنعهم التاريخ أبطال حرب واختزنهم في ذاكرته فراعنة من أسوأ المستبدّين في التجربة البشرية . وكان من الصعب أن تجادل من آمن بالثورة وبثائريها المتواجدين في دوائر مقدّسة لا يمكن الدخول إليها من قِبل الناقدين بل يجب الخنوع والخضوع فيها لمن لمع نجمه في سماء الثورة التي تتعبّد وتتهجّد لها شعوب العالم الثالث كونها تعكس في مرآتها صوراً من جنتهم القادمة على دماء الفقراء .
بعد الحرب وبعد نهاية التجربة النضالية في لبنان بخيبة أمل قاتلة جرّاء انهيار المشروع الوطني ببعدَيه القومي والماركسي في لحظة امتحان مع التحتلال الإسرائيلي ودّع القاموس اللبناني أسماء الثوريين من كاسترو إلى رفاقه الآخرين ودخل الجيل الجديد تحت مسمَّيات جديدة عندما ذاع صيت الثورية الإسلامية التي أنهَت مرحلة اليسار اللبناني بكل محمولاته الثقافية والفنية وأسست لمرحلة جديدة لا مكان فيها لما اعتمدته الدعاية الثورية اليسارية من وسائل وأسماء لتغذية الشعور بالموت والنضال في سبيل القضيتين اللبنانية والفلسطينية .
بعد وعي شعوب العالم الثالث بدور الولايات المتحدة والغرب عموماً بدعم أنظمة الاستبداد على حسابها وبعد تثبيت قوّة إسرائيل في المنطقة على حساب الشعب الفلسطيني وقضيته وعلى حساب المستقبل العربي، أمسَت كل الشعارات المعادية للسياسة الأمريكية محلّ احترام لدى الفئات الكثيرة من شعوب العالم ممّن ينزفون قهراً من سياسات الولايات المتحدة المُذِلّة وعادت من جديد صور رموز العداء للإمبريالية الأمريكية إلى البروز بعد سنوات من الضمور فكان تشافيز نموذجاً جديداً لحالة التماهي مع البطل حتى ولو كان من كرتون وكان كاسترو وكذلك غيفارا، وقد ساعدت فرصة استراحة الإسلام السياسي عن التطرف للتفريق بينه وبين الإسلام الإرهابي على تعزيز حضور رموز مرحلة السبعينيّات من روّاد التجربة الاشتراكية المعادية للغرب الرأسمالي .
لقد مات البطل كاسترو أمس في عيون محبيه، ومات أيضاً بنظر الناقدين له منذ قيام الدولة باسم الثورة لأنها عزّزت من منطق الاستبداد والاضطهاد ورفعت من مستوى الفقر أضعافًا مما كانت عليه إبّان حكم باتيستا، وهذا ما دفع الكوبيين إلى خيار الهروب على عربة البحر مهما كان مُزبداً تخلصاً من عربة الموت في كوبا كاسترو .
بين مؤمنين بفيدل كاسترو كتجربة في الثورة والدولة وبين الكافرين به في تجربة الدولة يبقى النقاش مفتوحاً في حياته وفي مماته وهذه دلالة على رمز نضاليّ لا يموت ويستحيل تشييعه إلى مثواه الأخير لأنه موضوع في تابوت التاريخ ككتاب حيّ تستسيغ قراءته الشعوب المقهورة والتي مازالت تنظر إلى الأموات كأحياء قادرين على إخراجهم من جهنم إلى الجنة التي وعد بها آلهة الأرض .
وكاسترو هنا ليس مجرد نموذج كوبيّ بل هو نموذج يختزن تجربة المؤمنيين بالثورية من يمين ويسار وإسلاميين صاعدين باسم الثورة أيضاً .
عام 2005 التقيت فيديل كاسترو في هاڤانا مع مجموعة قليلة من الصحافيين الأجانب .
تحدث دون توقف 5 ساعات متواصلة ثم فتح المجال للأسئلة وكان سؤالي التالي:مرت سنوات طويلة جدا وانت في الحكم ، هل لك ان تحدثنا عن الأخطاء التي ارتكبتها؟
نظر كاسترو الي بغضب شديد وقال: أكبر خطأ ارتكبته انني جالس هنا معك...
صفقت له وانفجر الجميع بالضحك.وبينما كان كاسترو يجيب عن سؤال اخر همس في أذني مسؤول كبير في وزارة الخارجية الكوبية: هل أعجبتك كوبا؟
جدا, قلت له.
قال المسؤول الكوبي: اذا أردت الرجوع الى كوبا فلا داع الى هذا النوع من الأسئلة!!