لم يكن الزائر لأرض السيجار والسكر، يرى في جزيرة فيدل كاسترو الذي علمنا بوفاته اليوم، ما يوحي بأنه كان حاكمها طوال 47 سنة فعلاً، فلا شيء فيها يحمل اسمه على الإطلاق، لا شارع ولا ساحة ولا مصنع أو مطار، بل ليس في "لؤلؤة جزر الأنتيل" كلها تمثال واحد لمن لا لوحة تذكارية تحمل اسمه أيضاً، ولو على مدخل أحد المشاريع، لا لقلة ما دشن منها في بلاد لا زالت تعيش القرن التاسع عشر بعقلية الحالم بالقفز إلى الحالي وهي التي لم تمر بعد بالقرن العشرين، بل لأن كاسترو كان يخشى الدوائر والغدر ومحاولات الاغتيال، لذلك عاش وعائلته وأقاربه بقوقعة كلها حذر وأسرار.
لا صورة لكاسترو مثلاً على طوابع كوبا، ولا حتى على البيزو، وهو عملتها المزينة إحدى فئاتها برسم برتقالي اللون وحزين السمات لوجه رفيقه الراحل، الأرجنتيني تشي غيفارا. بل لا حفر لاسمه في أي مكان من الأرض المعروفة بشعبها المرح على فقره، سوى على ضريح سيبدأون بتحضيره ليضم رفاته بعد أيام معدودات.
الولايات المتحدة كانت جارة مزعجة دائما لكاسترو حين كان الحاكم المطلق لأكثر من 12 مليوناً من سكان الجزيرة، وتربصت به لاغتياله باستمرار، إلى درجة أننا نجد في أرشيفات إخبارية، اطلعت عليها "العربية.نت" سريعاً، أن محاولات اغتياله زادت على 14 مخططاً طوال 20 سنة قبل الثمانينات من الأميركيين وحدهم، باستثناء الكوبيين المعارضين في الخارج، أو "مافيا ميامي" كما اعتاد كاسترو أن يصفهم.
وأول محاولة لاغتياله جرت حين لم يكن مر في 1960 إلا عام و8 أشهر على حكم ثورته الشيوعية بكوبا، بحسب تقرير تسلمته في 1975 لجنة الأمن القومي بالكونغرس الأميركي بعنوان "مخططات اغتيال استهدفت زعماء أجانب" ونشر ملخصه صحافيان أميركيان في كتاب شهير اسمه "أهم 50 مؤامرة اغتيال بتاريخ أميركا" وفيه أن قسم "الخدمات الطبية" في CIA أرسل عميلاً تسلل في 1960 إلى جناح كاسترو في فندق بنيويورك، حين زارها ذلك العام، وقام "بتفخيخ" لفائف سيجار حملها معه الزعيم الكوبي، ثم راح ينتظر في ردهة الفندق، حالماً بسماع صوت الانفجار الموعود.
انتظر العميل الاستخباراتي أكثر من ساعتين، ولا شيء حدث، إلى أن اكتشف بأن المحاولة باءت بالفشل، لأن كاسترو قدم العلبة هدية لأحدهم زاره، فيما راح يدخن مع ضيفه لفائف من علبة ثانية كانت لديه. وعند خروج الدبلوماسي وبيده الهدية، تصرفت "سي.آي.ايه" بسرعة، كي لا يقضي الرجل ضحية سيجار ملغوم.
ثم جرت عملية ثانية في منتصف الستينات، بحشو لفائف سيجار بمواد متفجرة في مشغل تم إنتاجها فيه قرب العاصمة الكوبية هافانا، وسبق أن أتت "العربية.نت" على خبر هذه المحاولة التي تكررها لمناسبة رحيل كاسترو، وملخص تفاصيلها أن المخابرات الكوبية اكتشفت المحاولة بعد أقل من ساعة، واعتقلت 5 عمال، بعضهم قضى وراء القضبان، وبعضهم قد لا يزال حيا خلفها على ما يعتقدون.
وأطرف محاولة هي ما استهدفوا من ورائها "تسخيف" كاسترو، بمخطط أعده قسم "التقنيات" في CIA الأميركية، حين تم حشو لفائف سيجار بمادة BZ المسببة الهلوسة عند أول استنشاق، ليبدو الرجل الثوري في مؤتمر صحافي دولي كان سيعقده بهافانا، مهلوساً على التلفزيون أمام مئات الآلاف والمسؤولين الكوبيين. لكن ما حدث قبلها بدقائق لم يخطر على بال: المنظم للمؤتمر "سرق" لفافة وهو في طريقه ليضع العلبة على طاولة كان سيجلس عندها كاسترو أمام الصحافيين، فاتضحت الأمور حين أشعلها وراء كواليس القاع، وانفجرت فيه.
وحاولوا مرة "حشو" حذاء كاسترو بملوحات مادة كيميائية يسمونها Thallium المسببة بتساقط سريع للشعر عند انتشارها من القدمين إلى بقية الأعضاء، لتسخيفه أيضا أمام المسؤولين الكوبيين بشكل، وتعطيل عمله، بعد أن يسقط شعر جفنيه وحاجبيه ولحيته ورأسه بشكل سريع، بحيث لا يعود للنمو إلا بعد وقت طويل، وباءت هذه المحاولة أيضاً بفشل مجهول الأسباب منذ حدوثها في 1964 للآن.
بعدها بعامين، علموا أن كاسترو بدأ يمارس هواية الغطس، فأعدوا سترة تنفجر عبوة فيها عند الغطس بها إلى عمق مترين، ليقوم قنصل أجنبي، كان سيزوره بمكتبه في "قصر الشعب" بهافانا، بتقديمها هدية لمناسبة عيد ميلاده الأربعين. إلا أن قدم كاسترو انزلقت قبل ساعة من اللقاء، فألغى مواعيده مع كثيرين ذلك اليوم، ومنهم الدبلوماسي الذي عاد بورقة نعي بيضاء.
وفي كتاب "محارب في الظل" ذكر عميل للاستخبارات الأميركية، اسمه فيليكس رودريغز، في مذكراته بسبعينات القرن الماضي في نيويورك، ما طالعته "العربية.نت" في أرشيف محاولات اغتيال كاسترو المتوافر "أونلاين" بلغات ومواقع إخبارية عدة، من أنه حاول اغتيال كاسترو مراراً، ولم يفلح.
وفي إحدى المرات دعته لجنة الأمن القومي بالكونغرس الأميركي، مع زملاء له في الاستخبارات إلى جلسة، سأله أحدهم خلالها عما إذا هو من "فخخ" لفائف سيجار لكاسترو قبل أعوام، فأجاب رودريغز: "لا يا أيها السيد، لم أكن أنا فعلا. إنما حاولت بدءا من 1961 وطوال 10 سنوات تصفية من تدعوه كاسترو، وأسميه أنا "ابن الـ..." ببندقية مزودة بمنظار، ولم أفلح 6 مرات. ثم فخخت حذاءه بالمتفجرات، ولم أفلح أيضا" كما قال.
تابع الإجابة: "أنا الذي لا أزال أتضرع إلى الله بأن يخطفه إلى الماورائيات، وإلى الآن لا أفلح ولا يستجاب لي. إنه بسبع أرواح يا سيدي، ولا أتضرع في هذه الأيام إلا بدعاء واحد، وهو أن أراه ميتاً قبل موتي على الأقل، فهل يستجاب لي يا ترى"؟ لذلك أسرعت "العربية.نت" لتسأل خانة البحث في "غوغل" الشهير عن Félix Rodríguez لتطمئن عنه، فوجدت صورته، وبأنه من مواليد 31 مايو 1941 بهافانا، وكان عميلا للاستخبارات الأميركية وفي الجيش، ولا زال حيا بعمر 75 سنة للآن.. سبقه كاسترو إلى الموت.