لم تتجاوز كميات الأمطار المُتساقطة خلال شهري تشرين الأول وتشرين الثاني الـ 9% من المُعدّل الوسطي التقديري لهذين الشهرين. "انحباس" الشتاء، إذا ما استمر، يُنبئ بأزمة جفاف جدّية ستزيد من حدّة تقنين المياه القاسي.
10 ملم فقط، بلغ المعدّل الوسطي المُقدّر لكميات متساقطات الأمطار خلال شهري تشرين الأول وتشرين الثاني. لم "يجنِ" الشهران المذكوران أكثر من 9% من المعدّل الوسطي للأمطار المُقدّر أن يشهداها. فبحسب المدير العام لمصلحة الأبحاث الزراعية العلمية ميشال أفرام، فإن المعدلّ الوسطي للأمطار خلال هذين الشهرين يُقدّر، بشكل عام، بنحو 120 ملم.
يُعوَّل عادةً، بحسب عدد من الخبراء، على هذين الشهرين لتجميع مُتساقطات الأمطار كمخزون احتياطي يكون بمثابة "التعويض" في حال لم تشهد الأشهر التالية غزارة في المُتساقطات. يقول أفرام إنه في حال بقيت كميات المتساقطات ضمن هذا المُعدّل، فإننا مُقبلون على موسم من الشحّ لا محال. وعلى الرغم من أنه من المتوقع أن يكون الأسبوع المُقبل ماطراً، إلا أن "ما من مؤشّرات تدلّ على أن كانون الأول سيكون غزيراً"، وفق ما يقول أفرام.
"ملامح" الجفاف بدأت تظهر. في البقاع مثلاً، وبحسب أفرام، انخفض مستوى المياه الجوفية نحو 110 أمتار. وفي منطقة القاع تحديداً، حيث تُصنف غالبية الأراضي زراعية، بات استخراج المياه يتم على عمق 300 متر، ما "يُرتبّ على المزارع كلفة ضخمة لتغطية أعمال ضخ المياه وغيرها"، وفق ما يقول رئيس جمعية المزارعين أنطوان الحويك. يلفت الأخير إلى أن الضرر يقع على الزراعات الشتوية، كالقمح مثلاً، لافتاً إلى "الكارثة" التي ستحلّ بالمزارعين العاجزين عن استخراج المياه.
خلال السنوات الطويلة الماضية، كان استخراج المياه في البقاع يتم على عمق 3 أمتار، بحسب الحويك الذي يُشير إلى أن منسوب المياه الجوفية الحالي لن يعلو "حتى لو شهدنا موسماً ماطراً"، وذلك بسبب الضخ العشوائي المنتهج منذ سنوات إضافة إلى غياب سياسة إعادة تعبئة خزانات المياه الجوفية، فضلاً عن غياب مواسم الأمطار التي عهدها لبنان منذ سنوات طويلة مضت.
يوضح الباحث والأستاذ في الجامعة الأميركية في بيروت رولان رياشي أن 80% من المياه العذبة مصدرها الثلوج، لا المُتساقطات، مُشيراً إلى أن الثلوج هي التي تغذي المياه الجوفية. وبالتالي، إنّ الصقيع والعواصف الثلجية باتا "مطلوبين" من أجل "تكديس الثلوج وذوبانها على مهل وتسربها نحو المخازن الجوفية". يقول رياشي إنه بخلاف ما يُثار، التعويض عن النقص في المتساقطات لا يكون عبر "شتوات" غزيرة، موضحاً في هذا الصدد، أن الدراسات تقوم بتحليل "أسلوب" الشتاء. برأيه، إن الشتاء الغزير الذي يتدفّق مرة واحدة والذي قد يتسبّب بفياضانات يختلف عن الشتاء المنتظم والدوري، "فالقدرة على تخزين المياه خلال يوم ممطر و"عنيف" أقل بكثير من القدرة على التخزين خلال أيام الشتاء الدوري"، مُشيراً إلى التطرّف الذي بات يحكم موسم المطر، "وهو ما يندرج ضمن تداعيات التغيّر المناخي".
هذا الكلام يتوافق وما يقوله أفرام الذي يلفت إلى التفاوت الكبير في درجات الحرارة الذي يحصل حالياً، ويُعطي مثالاً أيضاً عن البقاع ويقول إن الحرارة تصل ليلاً إلى 2 تحت الصفر، لترتفع نهاراً إلى أكثر من 20 درجة، في إشارة إلى "روح" الصحراء المتطرفة الذي بدأ يُخيم على المناطق البقاعية. يتبنّى أفرام فكرة أن تأخر الشتاء وانحباس الأمطار هما من "نتاج التغيير المناخي"، فيما يترّيث البعض في تبنّي هذه الفكرة واعتبارها "دورات مناخية" تحتاج إلى تدقيق. حتى اليوم، يتجنّب عدد من الخبراء إطلاق صفة "الظاهرة المناخية" على الطقس المُسيطر حالياً، لكنهم يُجمعون على أنه "مُستغرب".
الضرر الناجم عن الجفاف، لا يقتصر على معاناة المزارعين الدورية والموسمية، ويتعدّاه إلى خلق أزمة فعلية تتهدّد أولاً صحة الإنسان. يقول أفرام: "الشتاء أقل، يعني التلوّث أكثر"، في إشارة إلى الحاجة المُستمرة إلى مياه الأمطار التي تغذي المياه العذبة وتجدد الركود الكامن في المخازن، خصوصاً مع انتشار عوامل التلوث في الآونة الأخيرة.
أزمة الجفاف هذه مُكلفة، ويتكبدّ خسائرها يومياً المُقيمون في لبنان الذين يعانون أزمة انقطاع المياه. مؤخراً، شهد الكثير من المناطق تحرّكات عديدة، كبلدة حراجل مثلاً، ضد التقنين المتزايد للمياه. وفيما يُصوّر البعض أن الأزمة "طبيعية" وتندرج ضمن التقنين المُستمر و"المعهود"، يؤكّد المعنيون في ملف المياه أن الجفاف سيزيد من حدّة التقنين وبالتالي من أعباء الأسر المُقيمة. هذه الأسر تنفق نحو نصف مليار دولار سنوياً على المياه، بحسب ما يقول الرياشي.
عام 2010، قُدّر الطلب السنوي على المياه، بـ 1.5 مليار متر مكعب، وفق "مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان". حينها، وصل العجز إلى 73 مليون متر مكعّب. ومن المتوقع، بحسب المؤسسة، أن يزيد الطلب على المياه بنسبة 55%، ليصل الطلب على المياه عام 2020 إلى 2.3 مليار متر مكعّب، وبطبيعة الحال، من المتوقع أن يتضاعف العجز في ظل تغييب سياسات إدارة المياه وترشيدها.
تقول المؤسسة على موقعها الإلكتروني، إنه تجرى الاستفادة من 17% فقط من مياه المُتساقطات، وهو ما يُثبت سياسة "اللاسياسة" التي تنتهجها الدولة، كما في الكثير من المرافق الحياتية.
لا إجراءات وقائية تُجنّب الأزمة المُرتقبة، وفق كل من الحويك والرياشي وأفرام. يُجمع هؤلاء أن تدارك الأزمة يتطّلب سياسة لإدارة المياه. هذه السياسة تحتاج إلى سنوات من التخطيط. وبالتالي، بحسب منطق هؤلاء، في ظلّ إهمال الدولة وتجنبها لسنوات طويلة وضع سياسات ترشيد الاستهلاك، تُصبح الإجراءات الواجب اتباعها لتفادي اتباعها عاجزة لا عن مواجهة الأثر فقط، بل عاجزة عن تخفيف وطأته أيضاً.
الخيار الأبرز، إن لم يكن الوحيد، الذي تنتهجه الدولة حالياً في مسألة إدارة أزمة المياه هو سعيها إلى بناء السدود. يقول الرياشي في هذا الصدد إن هناك 18 سداً بين ما يجرى التحضير له وبين ما بوشر به.
الجفاف "يغذي" الحرائق
تشهد مناطق في فلسطين المحتلة حرائق كبيرة. يقول الأستاذ الجامعي جاد أبو عراج، إن خطر الحرائق في جنوب لبنان، كما غيره من المناطق اللبنانية الحرجية، قائم. ويستعرض في هذا الصدد حوادث الحرائق التي حصلت خلال هذا الشهر في عكار وبعض البلدات اللبنانية. يُغذّي هذا الخطر، بحسب أبو عراج، عامل الجفاف الذي يؤثر في نسبة رطوبة الأحراج، فضلاً عن وجود اليباس المنتشر في المناطق الحرجية. هل من إمكانية لتدارك هذا الخطر؟ يُجيب أبو عراج إن المسألة تتعلق أولاً وأخيراً بكيفية إدارة الغابات في لبنان، مُشيراً إلى أن غياب الأهلية لمواجهة هذا الخطر سيؤدي حُكماً إلى كارثة كبيرة.
(الأخبار)