لطالما نادى رئيس الجمهورية ميشال عون، منذ بداية الفراغ الرئاسي، بأولوية القانون الانتخابي على ما عداه، بما في ذلك رئاسة الجمهورية، بعنوان إعادة تكوين السلطة. لكن المؤسف لبنانياً أن ذاكرتنا مثقوبة، بدليل هذا التقاتل على مقاعد وحصص وأوزان لحكومة يفترض أن لا تعيش سوى بضعة أشهر، ما دامت حكومة انتخابات نيابية.
ولقد عاش لبنان هذه التجربة في العام 2005، في عز أزمته الوطنية التي أعقبت اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فكانت حكومة نجيب ميقاتي التي طغى عليها الطابع التكنوقراطي، حكومة الانتخابات.. ونقطة على السطر.
لكأن الطبقة السياسية كلها ومن دون استثناء تعيش حالة من انفصام الشخصية. صارت الحكومة هي الهدف، وصارت الانتخابات ليس بقانونها وما تنتجه من تمثيل صحيح وعادل لجميع المكوّنات، بما فيها «طائفة العلمانيين»، بل بما يمكن أن تنتجه من توازنات تعيد سيطرة «الثنائي الماروني» على أغلبية المقاعد المسيحية، هي الهدف الأول والأخير. لكأن حرباً جديدة للإلغاء تطل برأسها، لكن هذه المرة ليس بالمدافع بل بقانون الستين الجائر ولو مع تعديلات بسيطة تنقل مقعدا مارونيا من طرابلس الى البترون وثانيا من البقاع الشمالي الى بشري!
صحيح أن انتخاب ميشال عون قد كسر مسارا سياسيا في التعامل مع المسيحيين بدأ في العام 1992، خصوصا في ضوء الخطأ الاستراتيجي المتمثل بمقاطعة الانتخابات، لكن الانتخابات المقبلة بلا قانون انتخابي جديد لا قيمة سياسية لها، بل ستعمّق المأزق المسيحي أكثر فأكثر، وعندها سيتجاوز الإحباط المسيحي، كل مشاهده السابقة، ويمكن أن يشكل بنتائجه خطراً كبيراً على الوجود المسيحي.. لا بل على لبنان.
قبيل الانتخابات النيابية في العام 2000، طلب الرئيس إميل لحود من دوائر النفوس إحصاء عدد الناخبين المسيحيين في لبنان، في معرض إحصاءات أشمل كان قد طلبها. كانت المفاجأة أن نسبة المسيحيين تساوي 23 في المئة من إجمالي عدد الناخبين. تلك الخلاصة، أرسلها لحود إلى المراجع الروحية المسيحية، مقدماً اقتراحاً واحداً: المصلحة الوحيدة للمسيحيين تكمن في تعزيز المواطنة والذهاب نحو تكريس الهوية الوطنية، بدلاً من البحث عن حصة طائفية في نظام سياسي طائفي متهالك لم يعد بمقدوره أن يحميهم.
بعد 16 عاماً، أعاد التحالف القواتي ـ العوني، نظرياً، للمسيحيين الثقة بحضورهم في الدولة وبقدرتهم على «استعادة» حقوقهم أو حصصهم، التي هُمشت مع اتفاق «الطائف»، وبالتالي طويت مرحلة «استتباع المسيحيين في الدولة لغير المسيحيين».
ومع وصول ميشال عون إلى قصر بعبدا، فإن الضمور الذي أصاب صلاحيات رئيس الجمهورية في ذلك الاتفاق «سيكون بالإمكان تغطيته بالحيثية الشعبية التي يملكها عون وحده من بين الرؤساء الذين تعاقبوا على الرئاسة منذ بشير الجميل حتى الآن»، بحسب أحد المشاركين في مؤتمر الطائف.
مشهدية المناسبتين اللتين استضافهما القصر الجمهوري يمكن التوقف عندها طويلاً. لم يسبقه إليها أي من أولئك الرؤساء، فبدا أن القصر لم يُملأ منذ أيام ميشال عون سوى بميشال عون نفسه.. مع فارق 26 عاماً.
ولأن «الشعبية» تعوّض ضمور الصلاحيات، فإن سياق الأحداث يشير بوضوح إلى أن عون، متحالفاً مع «القوات»، لن يرضى بأقل من المناصفة الفعلية. لكن ذلك يطرح، ربطاً بالنظام الطائفي اللبناني، سؤالاً استطرادياً: إذا كانت المناصفة الشكلية منذ «الطائف» حتى اليوم قد عوّضت الخلل العددي بين المسلمين والمسيحيين، فهل المناصفة الفعلية ستعني إعادة فتح النقاش بمسألة الأعداد و«العدّاد» ونسبة الحصص في الدولة؟
يرفض مرجع رسمي ربط هذه بتلك، وإن كان يقر بأن المثالثة تبقى حلماً يراود كثيرين. لكنه يعود ويصوّب: من يملك سلطة القرار متمسك بالمناصفة ربما أكثر من المسيحيين.
إلا أن وزيراً سابقاً من المشاركين في مناقشات «الطائف» يفضّل، في رده، الذهاب إلى الأقصى: من يستطيع توفير أغلبية الثلثين في مجلس النواب لتعديل الدستور، يجب عليه ألا يتردد.
لكن زميلاً آخر له في مفاوضات مؤتمر الطائف، يرفض المسألة من حيث المبدأ، معتبراً أن أي نقاش يمس بالمناصفة هو مقاربة إستراتيجية خاطئة، إذ إن «فلسفة الطائف كلها انطلقت من مبدأ تجاوز العدد مقابل تقليص صلاحيات الرئيس». ويضيف: هذا يعني أن أي مس بمسألة العدد، يحتّم رد الصلاحيات إلى الرئيس، وبالتالي إعادة النظر بالنظام السياسي ونظام العيش المشترك برمّته.
حتى الآن، ما تزال ردة الفعل على «الانتفاضة المسيحية» محصورة ومضبوطة. لكن من يضمن المستقبل؟
هنا، يرتفع الصوت مجددا بأن لا خلاص للمسيحيين أو المسلمين من تقلبات الزمان سوى بالمواطنة وبالدولة المدنية.
لا تضيّعوا وقتكم. إلى حكومة تكنوقراط ببيان وزاري من سطر واحد: قانون انتخابي جديد وانتخابات نيابية قبل موعدها.. وإلا فحذار أخذ المسيحيين إلى مواسم إحباط جديدة!