يُشرق فجر الاستقلال الـ 73 فوق سماء لبنان، حاملاً أملاً جديداً من خلال التسويات السياسية الراهنة، ولكن أيضاً مثقلاً بتحدّيات جمّة تقف في وجه صنعِ دولة تحلم بها كلّ مواطنة ومواطن على حدّ سواء. في صباح هذا الاستقلال وبينما تتصارع كوكبة ذكور من قياديّي الأحزاب السياسية وممثّلي الجهات الطائفية لتناتشِ الحقائب الوزارية والحصص، ولتحقيق أكبر قدر ممكن من المصالح، تُناضل النساء لاختراق صفوف الرجال المرصوصة علّهنّ ينتزعنَ بعضاً من حقوقهنّ غير المعترف بها.
فبلدنا على مرّ السنوات كرّس التهميش المهول ضد النساء على أساس جندري، فاستأثر الرجال بكلّ مفاصل القرار، قامعين تمثيلَ المرأة وخصوصاً سياسياً، وقد فصّلَ الرجال القوانين والأعراف على قياسهم.
النشيد
منذ الاستقلال تَرسَّخ التمييز ضد المرأة اللبنانية في كلّ مفاصل الدولة، وحتّى في أهمّ رموز لبنان: النشيد الوطني، الذي لا يتطرّق إلى دور النساء متجاهلاً وجودهنّ، بينما يشدّد على دور الرجال بالقول: "سهلنا والجبل منبتٌ للرجال"، "شيخُنا والفتى عند صوت الوطن".
وتطالب رئيسة المجلس النسائي اللبناني إقبال دوغان في حديث لـ"الجمهورية" بتعديل النشيد، لأنه يسَطّر التمييز ضد المرأة، وتتساءل: "لماذا يُقال منبت للرجال وليس للإنسان مثلاً"، ولماذا يثني النشيد على نشاط الشيخ والفتى عند صوت الوطن، فهل المرأة الكبيرة والفتاة الصغيرة لا يضحّين من أجل الوطن؟".
وتستشهد دوغان في هذا الإطار بالدولة الكندية حيث صوّت البرلمان لصالح تعديل السطر الثاني من النشيد الكندي الذي يتحدّث عن أبناء الأمّة دون بناتها، فاستُبدلت كلمة الأبناء بصيغة الجمع، وسط دعم غالبية الكنديين لإقرار هذا التعديل.
فجر الاستقلال
ويبدو أنّه على رغم التمييز الذي طالها في النشيد تمتّعَت المرأة اللبنانية فجر الاستقلال بوضع رائد مقارنةً بحال النساء في بلدان الجوار وحتّى في بعض الدول الأوروبية، بينما تخطّاها الجميع اليوم وهي تغرَق في حفرةِ التخلّف.
كان لبنان أوّلَ بلد عربي يعطي المرأة الحقّ بالترشّح والتصويت عام 1953، بينما انتظرَت بعدها النساء في سويسرا أكثر من 18 سنة ليحظينَ بحق الاقتراع للمرّة الأولى، عام 1971.
وقد شاركَت اللبنانيات في صنع الاستقلال وفي تحرير رجالاته من خلال تظاهرهنّ في وجه الانتداب الفرنسي.
وتمّ الالتفات إلى مطالبهنّ آنذاك فأخذنَ حقوقاً جَعلت منهنّ قدوةً للنساء في العالم. ولكن، منذ ذلك الحين وتُلاقي مطالب الجمعيات النسائية الآذان الصمّاء، بينما لم تتمكّن أيّ امرأة من دخول العمل السياسي سوى من باب التكتّلات السياسية الطائفية والعائلية التي جَعلت العملَ في الشأن العام حِكراً على الرجال، وسلّمتهم مفاتيح صنعِ القرار متسلّحةً بالعقلية الذكورية، وحاصرةً دورَ المرأة في الشقّين العائلي والاجتماعي فقط.
وعملاً بمقولة أنّ مَن لا يتقدّم يتراجع، تراجعَت مكانة المرأة اللبنانية على الخريطة العالمية للدول الرائدة في مجال حقوق النساء والإنسان. وتحتلّ اللبنانيات اليوم مراتبَ عالمية مخزية في هذا الإطار، لا تليق بعِلمهنّ وثقافتهنّ ونضالهنّ. فلبنان في المرتبة 143 بين 144 دولة، من حيث عدد النساء في البرلمان.
واللبنانيات لم يعُدن طبعاً في طليعة نساء العالم العربي على سلّم الحقوق، وقد تفوّقَت عليهنّ بأشواط الجزائريات والتونسيات والقطريات والأردنيات بحسب تقرير حديث أصدرَته المنظمة العالمية Save the children قيّمت فيه وضعَ النساء والفتيات في مختلف دوَل العالم.
فحلّ لبنان في المرتبة 76 من أصل 144 دولة، بينما تفوّقت الجزائر على الولايات المتحدة منتزعةً المرتبة 31 لتحلّ أميركا في المرتبة 32 وبعدها تونس في المرتبة 33. علماً أنّ البرلمان الجزائري يضمّ 152 امرأة، بينما في لبنان 4 نائبات!
في القانون
وضعُ المرأة اللبنانية المزري لا يقف عند حدّ عدمِ مشاركتِها في عالم السياسة، فعدمُ تمثيلها الصحيح على مقاعد مجلس النواب جعلَ الرجال من النواب يغضّون الطرفَ عن قوانين فاضحة تستهدفها.
ويتطلّب تعديل كلّ بندٍ بالٍ ومجحف بحقّها سنوات من نضال الجمعيات النسائية، على رغم كون هذه القوانين "لا يَقبلها عقل". فالقانون 293 لحماية النساء من العنف الأسري، المصوَّت عليه في البرلمان عام 2014 اعتبَر اغتصابَ المرأة في إطار الزواج حقّ مِن حقوق الزوج.
وأيضاً، تنصّ المادة 522 من قانون العقوبات على وقفِ ملاحقة أيّ رَجل اغتصب امرأةً ليست زوجته إذا ما قام بالزواج منها لتغطية فعلته... ويبقى التحرّش باللبنانيات قائماً في العديد من أماكن العمل دون وجود قانون يضع حدّاً للذكور من الموظفين في بلد "منبت الرجال".
الإيمان بالحقوق
واقعُ اللبنانيات المزري لن يتغيّر إلّا بوصول من تحمل قضايا النساء على عاتقها إلى سدة البرلمان. ويبقى الأمل بإقرار مجلس النواب الكوتا النسائية التي ستَسمح للمرأة ببدءِ الخروج من مستنقعها الموحِل، إذ ستُجيز مشاركتها بنسبة 30 في المئة على الأقلّ في السلطة التشريعية.
فمنذ الاستقلال لم ترتقِ اللبنانية يوماً إلى مستوى شريكة في الوطن، ويمرّ الاستقلال 2016 على لبنانيين مستقلّين ولبنانيات تابعات خاضعات، ولكن غير مستسلمات.
وعلى رغم أنّهن خضنَ نضالات كثيرة "وما طِلع بإيدُن شي"، لأنّ العديد من الرجال ورثة الاستقلال حدّدوا مكان المرأة في المطبخ، مهما تعلّمت وطمحت إلى التغيير، إلّا أنّ كلّ ناشطة في المجتمع المدني تدرك جيّداً أنّ قضايا النساء محقّة وأنّه "لا يموت حقّ وراءه مطالب".
(الجمهورية)