يحتفل لبنان اليوم بعيد الاستقلال، وكلّ الدولة حاضرة في العيد، ولعلّ هذه الفرصة الجامعة تسحب نفسَها على مسار التأليف بنيّاتٍ حسنة وصادقة، وبغسلِ قلوب يوفّر الحد الأعلى من التواضع، وكذلك التفهّم والتفاهم بين مختلف الأطراف، بما يُكمّل الصورة الحكومية ويُعجّل بولادتها جامعةً لكلّ الأطراف ومن دون استثناء.
للعيد وهجُه هذه السنة، بعد اكتمال صورة الدولة بانتخاب رئيس الجمهورية، ومن حق اللبنانيين أن يطمحوا لأن يشكّل العيد، نقطة الانطلاق نحو الاستقلال الحقيقي الذي لطالما تاقوا إليه، تصان فيه السيادة بكلّ معانيها، ويحرّر اللبنانيين من كلّ ما ينغّص حياتهم، ويزيد من هواجسهم، ويُخرجهم من عتمة المشكلات وما أكثرها، والأزمات التي تراكمت على مرّ السنوات.. إستقلال حقيقي، تلتقي فيه كلّ الإرادات الداخلية على صيانة الاستقرار الداخلي وتعزيز الأمن الداخلي وعلى الحدود، وللجيش والأجهزة الامنية جهود مشهود لها في هذا المجال، وكذلك توفير الأمان الاجتماعي والاقتصادي والمعيشي، الذي هوالمطلب الأكثر إلحاحاً لدى كلّ اللبنانيين.

ولقد شكّلت رسالة الاستقلال لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون، وهي الأولى بعد غياب سنتين وأكثر، فرَضه الفراغ في سدّة الرئاسة الأولى، محطةً بارزة، فجاءت استكمالاً لخطاب القسَم، حدّد فيها خريطة الطريق إلى كيفية علاج الداخل من الأمراض التي يعانيها.

هذا في وقتٍ ما زالت السلبية تتحكّم بمسار التأليف، وأبقَته عالقاً في دائرة التعقيدات من هنا وهناك. لا بل إنّها أبقَت مزاج البلد بشكل عام «معوكراً»، جرّاء تعكّر المزاج الرئاسي على خط التأليف، والذي لم يصفُ بعد في غياب الوصفات العلاجية التي لا يبدو أنّها في المتناول حتى الآن.

لفتة فرنسيّة

وفي خطوة بارزة تدلّ إلى عمق العلاقات اللبنانية - الفرنسية، وفيما تقترب باريس من انتخاباتها الرئاسيّة حيث تدخل تلك العلاقات كعنصر بارز في الحملة الانتخابية بين المتنافسين نظراً للأهمية التي يشكلها لبنان في السياسة الفرنسية العالميّة وسط تصاعد اليمين المتطرف، حضرت رئيسة حزب «الجبهة الوطنية» المرشحة للانتخابات الرئاسية مارين لوبان وعدد من النواب الفرنسيين حفلَ الاستقبال الذي أقيم في مقر السفارة اللبنانية في باريس بمناسبة عيد الاستقلال.

وأشار سكرتير الدولة الفرنسي للتنمية الدولية ماتياس فيكل إلى أنّ «لبنان طوى صفحة عبر انتخاب رئيس جديد للجمهورية بعد أكثر من سنتين من الفراغ وتسمية رئيس حكومة جديدة». وأكّد أنّ «الأولوية الآن هي لتشكيل حكومة تجسّد هذه الاندفاعة الجديدة، ونعرف الجهود المبذولة في هذا الاتجاه ونتمنّى نجاحها».

التأليف المعطّل

إلى ذلك، دخلَ التأليف الحكومي في دائرة التعقيد، على نحو لم يَشفع له اللقاء بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والرئيس المكلّف سعد الحريري في بعبدا أمس والذي انتهى بتوجيه الحريري اتّهاماً إلى جهات لم يسَمِّها بالتعطيل، الأمر الذي ولّد انطباعاً بأنّ الولادة الحكومية قد تتأخّر الى أجل غير مسمّى، ويتأخّر معها استحقاق قانون الانتخاب الموعود، وربّما الاستحقاق النيابي برُمّته. وبدا من المواقف أنّ الخلاف على التأليف ليس خلافاً تقنياً بمقدار ما ينطلق من خلفيات سياسية تتعاظم يوماً بعد يوم، مشفوعةً بكيديات وفيتوات متبادلة.

زوّار بعبدا

في هذا الوقت، نقل زوّار قصر بعبدا لـ«الجمهورية» انّ زيارة الحريري لم تكن مقررة من قبل، وأنه رغبَ بوضع رئيس الجمهورية في حصيلة الاتصالات التي كانت جارية بعيداً من الأضواء كما تمّ التفاهم من قبل بينهما. وهو أبلغَ عون أنّ ما كان عالقاً في المفاوضات الجارية بينه وبين «التيار الوطني الحر» قد تمّ التفاهم بشأنه، وخصوصاً تلك المتصلة بالتفاهم على الحقائب المخصصة للطرفين».

ولفت هؤلاء إلى «أنّ ما تبقّى من عقَد حكومية تعوق التشكيلة الوزارية بات محصوراً بتلك التي ما زالت عالقة بين رئيس مجلس النواب و«التيار الوطني الحر» ورئيس الجمهورية الذي يرغب بتسمية حصته من الطوائف الأساسية، ومنها حقيبتان سنّية وشيعية، والتي ما زالت الحقيبة الشيعية منها مدارَ جدل مع بري الذي لا يرغب بالتخلي عن أيّ مِن المقاعد الشيعية، ولا بالنسبة إلى مطالبه بالحقائب العائدة إلى فريق «الأوراق البِيض» في جلسة 31 تشرين الأول الماضي.

وعلمت «الجمهورية» أنّ الرئيس المكلف لم يرفع أيّ تشكيلة وزارية لرئيس الجمهورية، وأنّ زيارته الى قصر بعبدا تأتي في سياق الاتصالات التي استأنفها، بعد تراجُع حدّة التوتر على جبهة بعبدا ـ عين التينة، والذي انعكسَ جموداً لأيام عدة على هذه الاتصالات.

«المستقبل»

ووصَفت مصادر «المستقبل» أجواء اللقاء بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف بأنّها كانت جيّدة.

ونفَت حصول أيّ اشتباك سياسي بين الرئاستين الثانية والثالثة، وقالت لـ«الجمهورية»: «إنّ الرئيس الحريري ليس في صَدد الاشتباك مع أحد، بل هو يعمل بجهد لتأليف الحكومة العتيدة، وليس لكي يشتبك مع أحد، ثم إنّ الرئيس بري كان واضحاً في ردّه بأنّ جوابه ليس جواباً على الرئيس الحريري، وبالتالي ليس هناك أيّ اشتباك «.

ولا تلمس المصادر نيّة عند أيّ طرف بتفشيل مهمّة الرئيس المكلف، إلّا أنّها لفَتت إلى وجود مطالب وطموحات متناقضة، وهذا بالأمر طبيعي، ومهمّة الرئيس المكلف هي أن يوازن بين هذه المطالب.

وأكّدت المصادر أخيراً مشاركة الحريري في احتفالات الاستقلال اليوم «إلّا إذا حتَّم عمله عليه السفر».

الحريري

وكان الحريري قد قال بعد زيارته بعبدا: «نحن متّفقون مع فخامة الرئيس على كلّ شيء، هناك بعض العثرات ومن يعطّل معروف اسألوه». ​

برّي

وسارَع بري إلى التعليق على كلام الحريري، فقال في تصريح له: «ليس جواباً على دولة الرئيس سعد الحريري بل توضيحاً له، الذي يُعرقل هو الذي يخالف الدستور والأعراف وقواعد التأليف، وليس من يحذّر من ذلك، وقد يكون الهدف الأبعد الإبقاء على قانون الستّين».

وأمام زوّاره، قال بري أن لا جديد في الموضوع الحكومي، وما قلته قلته، وكلامي كان نهائياً وأبلغته الى الحريري.

وحول الحكومة ومَن يعرقلها، قال: «الجواب ليس عندي، فليُسأل من يعرقل».

وقيل له إنّ هناك من يصرّ على رفضِ إشراك النائب سليمان فرنجية في الحكومة، فقال: «قلت وأكرّر، ليكن معلوماً أنّني شخصياً لا أشارك في حكومة بلا النائبين وليد جنبلاط وفرنجية».

وعن وجود من يجيّش أجواء سلبية ضدّه، أجاب بري: «كلّ من يهاجمني عن غير وجه حقّ فسيَسمع الجواب المناسب، وأمّا إذا هاجمني في نقطة معيّنة ويكون معه حق، أراجع نفسي وأقول معه حق».

وحول ما يقال عن محاولات ضغط على «القوات» لتحجيم تمثيلها، قال: «في مسألة تشكيل الحكومة، لا علاقة لي لا بالـ«القوات» ولا بغيرها، أنا علاقتي مع الرئيس المكلف».

رئيس حزب مسيحي

وأكّد رئيس حزب مسيحي لـ«الجمهورية» أنّ «أزمة ولادة الحكومة لا تتعلّق بحقيبة بالزائد أو بالناقص، وليست مسألة وزير سياديّ، أو تمثيل أحزاب وخلافاً على الأحجام السياسيّة، بل إنّ المسألة أبعد من ذلك بكثير، فهناك من استيقَظ على واقع جديد وتخطّى موضوع التأليف الحكومي». وشدّد على أنّ العرقلة هي عرقلة لانطلاقة العهد وللرئيس المكلّف على السواء».

وأضاف: «إستعراض «حزب الله» العسكري في القصَير لم يكن إلّا رسالة للداخل، وإذا لم تصل الرسالة بشكل واضح أتبعَوها بعرض «سرايا التوحيد» في الجاهلية، وهذا العرض الأخير ليس موجّهاً إلى الساحة الدرزيّة الداخلية».

وردّاً على سؤال عن الوقت الذي ستبصِر فيه الحكومة النور: أجاب: ما زلنا في بداية الطريق، مشَكّكاً بوجود نية حقيقية بتسهيل التأليف.
ولفتَ إلى أنّ «التحالف الجديد بين «المستقبل» و«التيار الوطني الحر» و«القوّات» أخاف المعرقلين».

مجموعة تعقيدات

وكانت مصادر تواكب مساعي التأليف قد تحدّثت عن مجموعة من التعقيدات، أبرزُها:

- إصرار فريق رئيس الجمهورية على تمثيل «القوات اللبنانية» بالحجم المعلن.

- إصرار «حزب الله» على تمثيل رئيس تيار «المردة» النائب فرنجية والحزب السوري القومي الاجتماعي، مع شرط أساسي أنه يربط مشاركته في الحكومة بمشاركتهما. ونُقل عن مستويات رفيعة في الحزب قولها «لن نشارك في حكومة بلا فرنجية و«القومي».

- إصرار رئيس مجلس النواب نبيه بري على حصّته الوزارية المتمثلة بحقيبتَي المال والأشغال، إضافةً إلى تمثيل فرنجية، وهو ربَط مشاركته في الحكومة بوجود فرنجية فيها.

- إصرار قوى سياسية على اختلافها على التمثيل بغير طوائفها. فرئيس الجمهورية يريد تمثيلاً شيعياً وسنّياً، والرئيس المكلف يرغب بتوزير مسيحي من كتلته، ورئيس مجلس النواب و«حزب الله» يرغبان بأن يكون توزير فرنجية و«القومي» من الحصّة المسيحية، الأمر الذي لا يلقى قبولاً من عون و«القوات».

- عقدة تمثيل الروم الأرثوذكس وموقع نائب رئيس مجلس الوزراء الذي ما يزال محلَّ تجاذب.

أمام هذه العقد، أكّدت المصادر لـ«الجمهورية» أنّ «الامور مستعصية وتكاد تكون عادت إلى المربّع الأول، وعزّز ذلك الاشتباكُ المتفاقم بين الرئاسات وتبادل الاتهامات بالعرقلة، وهذا يُنذر بطول أمد التأليف والغرَق في تفاصيل قد لا يكون معلوماً كيف ستُسحَب الشياطين من داخلها».

وأكّدت المصادر أنّ الكلّ، وخلافاً للكلام المعسول عن تسهيل التأليف لا يقرن هذا القول بالفعل، بدليل تبادل الطروحات التعجيزية والتشبُّث بها، والتعاطي مع الاستحقاق الحكومي كقطعة جبنة يحاول كلّ طرف ان يقضم جزءاً منها وأكبرَ من حجمه».

دعم سعودي

إلى ذلك، لا تزال جرعات الدعم للعهد الجديد تتوالى، وجديدُها دعمٌ سعودي عبّرت عنه زيارة وفد سعودي موفداً من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز الى بعبدا وعين التينة والمصيطبة و»بيت الوسط».

وضمّ الوفد مستشارَ خادم الحرمين الشريفين امير منطقة مكة خالد الفيصل ووزير الدولة للشؤون الخارجية نزار مدني، والمشرف العام على مكتب أمير مكة المستشار عبد الله بن عابد الحارثي، والقائم بالأعمال السعودي في بيروت المستشار وليد البخاري.

وفيما سلّمَ الفيصل الى الرئيس عون رسالة تهنئة من الملك سلمان ودعوةً منه لزيارة المملكة في أقرب فرصة، أكّد عون حِرص لبنان على تعزيز العلاقات اللبنانية- السعودية، وكذلك حرصَه على الاستمرار في دوره الإيجابي في خدمة القضايا العربية المشتركة مُقدّراً المواقف التي يتّخذها الملك سلمان تجاه لبنان.

وعلمت الجمهورية» أنّ عون أبلغَ الموفد السعودي رغبتَه بتلبية دعوة خادم الحرمين الشريفين، وأنّه سيتقدّم بعد تشكيل الحكومة الجديدة وفداً وزارياً موسّعاً عند القيام بها، رغبةً منه بتعزيز العلاقات بين بيروت والرياض على مختلف المستويات وبكلّ الإمكانات المتوافرة لضمان استعادة هذه العلاقات مجدَها الغابر.

وفي المعلومات أنّ الموفد السعودي لم يتناول موضوع الهبة السعودية للجيش اللبناني ولا إجراءات المملكة لإحياء حضورها الديبلوماسي في بيروت.

ومساءً أقام الحريري مأدبة عشاء تكريمية على شرف الأمير الفيصل والوفد المرافق، حضَرها: الرئيسان ميشال سليمان وأمين الجميّل، ورئيس حكومة تصريف الأعمال تمام سلام، والرئيس بري ممثّلاً بالوزير علي حسن خليل، والنائب وليد جنبلاط، ورئيس حزب «القوات» الدكتور سمير جعجع الذي عَقد خلوةً مع الحريري بعد مأدبة العشاء، إضافةً إلى عدد من الشخصيات السياسية والروحية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية وقادة الأجهزة الأمنية والسفراء العرب المعتمدين في لبنان.

وفيما أكّد الفيصل أنّ بلاده لا تريد لبنان «ساحة خلاف عربي، بل ملتقى وفاق عربي»، شدّد الحريري على أنّ علاقات لبنان وشعبه مع السعودية، «أكبر من أن تُمسّ، وأصدق من أن تُعكّر، وأعمق من أن يُنال منها»، وأنّ لبنان «المتمسّك بهويته العربية، ملتزم بكلّ القضايا التي تحمل المملكة رايتَها، بدءاً من استعادة الحقوق العربية كافةً وصولاً إلى مكافحة التطرّف والإرهاب بكلّ أشكاله ومسمّياته».