دخلَ موضوع تأليف الحكومة في طور جديد من المعوقات، أظهر أنّ الخلاف على التشكيلة الوزارية ليس تقنياً بمقدار ما هو سياسي بامتياز، يتسبّب به «انتفاخ» في بعض الحصص هنا وانتقاص هناك، على نحو يُفقِد الحكومة العتيدة بعضاً من ميثاقيتها لناحية أن تكون حكومة وفاقٍ وطني بكلّ ما للكلمة من معنى.لا أحد يُنكر أنّ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون يحمل مشروع تغيير وإصلاح يعمل عليه منذ سنين، ولكنّ بعضَ معاونيه ومؤيديه يَستعجله المباشرةَ بتنفيذه، معتقدِين أنه يمكن أن يتمّ بـ»كبسة زر»، فيما هو يتطلب إعداد العدة اللازمة له، ولا ينفّذ إلّا تدريجاً ومن خلال حكومة وفاقية شاملة تمتلك القرار السياسي الفاعل.
وهذا البعض يتصرّف إزاء تأليف الحكومة بما يشبه «حرب إلغاء» أو إقصاء لقوى وشخصيات سياسية وازنة في الحياة السياسية، فيما وثيقة الوفاق الوطني المعروفة بـ»اتفاق الطائف» تقضي بشمولية التمثيل النيابي والوزاري ونسبيته بما لا يلغي أحدٌ أحداً أو يقصيه.
وإذ يحاول فريق من السياسيين التقليلَ من شأن الحكومة العتيدة بالقول إنّها «حكومة انتخابات لن يزيد عمرها عن خمسة أشهر ولا داعي للاختلاف عليها»، داعياً الى إمرارها «كيفما كان»، تكشف الوقائع انّ هذه الحكومة هي من الاهمية التي تفوق الحكومات التي ستليها، لأنّ مهمتها الرئيسة هي إعداد قانون انتخاب يتوقف عليه مصير الحياة السياسية، أقله في السنوات الاربع او الخمس المقبلة، ولأنها بهذه الاهمّية يدور ذلك التنافس الحاد على التمثيل والاستيزار، للمشاركة في صنع المستقبل السياسي الذي سيَرسمه قانون الانتخاب العتيد.
لكن بعد مرور 23 يوماً على انتخاب رئيس الجمهورية وما يفوق الاسبوعين على تكليف الرئيس سعد الحريري تأليفَ الحكومة خابت الآمال بولادة قريبة لهذه الحكومة، وبات المتفائلون يتوقّعونها بين عيدَي الميلاد ورأس السنة، فيما المتشائمون يتوقّعونها بعد تسلّمِ الرئس الاميركي الجديد دونالد ترامب مهمّاته رسمياً في 20 كانون الثاني المقبل، وحتى ذلك الحين فإنّ التطورات المتلاحقة التي تشهدها الساحة السورية ربما تترك بعض البصمات على الداخل اللبناني.
على أنّ طالعَ المواقف يشي بأنّ تعقيدات كثيرة تعوق التأليف، ولعلّ ابرزها ما ظهر امس من اتّساع للأزمة وخروجها عن نطاق كونها بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب نبيه بري لتصبحَ ايضاً بين بري والحريري الذي خرجَ من قصر بعبدا ليوحيَ مداورةً أنّ بري هو من يعطل التأليف، أو على الأقلّ هو أحد المعطلين، فسارَع رئيس المجلس الى ردّ الاتّهام.
ومع أنّ البعض ذهب الى القول إنّ بري استعجلَ الرد على الحريري، مؤكّدين أنّه لم يقصد رئيس المجلس بالاتّهام، وإنّما يَغمز من قناة «القوات اللبنانية» التي تطالب بحصة وزارية تفوق حجمَها النيابي، فإنّ فريقاً آخر من السياسيين كشفَ انّ بري كان قد تلقّى خلال الايام الفائتة بعضَ الأصداء الاتهامية بتعطيل التأليف من»بيت الوسط»، فضلاً عن تلقّيه أصداءَ عدّة مماثلة من بعبدا منذ ما قبل زيارة رئيس الجمهورية لبكركي وما أُعلِن خلالها من مواقف، ردّت عليها عين التنية والمجلس الإسلامي الشيعي الاعلى.
ولذلك، يقول سياسيون إنّ الأزمة انتقلت من خلاف على التشكيلة الوزارية الى خلاف رئاسي ثلاثي، لن يتوافر له حلّ في المدى المنظور، وقد يترك مصيره لعامل الوقت بما يتيح تبديد المواقف المتشنّجة وتحقيق «الوئام الرئاسي» ليكون مدخلاً إلى حلّ أزمة التأليف عبر تجزئة مشكلاته وعقدِه وحلّها الواحدة تلوَ الأخرى.
ويعتقد هؤلاء السياسيون أنّ الأزمة الحاصلة تُظهر سوء تقدير للموقف لدى البعض، بمعنى أنّه لا يمكن تجاوز الوقائع السائدة بتأليف حكومة بعضُها من إرث المرحلة الماضية إلى وقائع موضوعية ينبغي الأخذ بها، وهي:
أوّلاً، تفويض حزب الله الى رئيس مجلس النواب التفاوض باسمه وباسمِ حركة أمل في عملية تأليف الحكومة، اي المفاوضة باسمِ الثنائي الشيعي الذي له حيثياته ومطالبُه الوزارية والسياسية.
ثانياً، إنّ البلاد لا تتحمل حصة وزارية متضخّمة لـ«القوات اللبنانية» حتى ولو كانت التزاماً بينها وبين «التيار الوطني الحر» استناداً إلى التفاهم المعقود بينهما.
ثالثاً، لا يمكن استثناء تمثيل زعيم تيار «المردة» النائب سليمان فرنجية وحزب الكتائب والحزب السوري القومي الاجتماعي وشخصيات سياسية مسيحية مستقلة ووازنة، فضلاً عن قيادات وشخصيات سنّية وازنة، سواء كانت تؤيد الحريري أو تعارضه.
ويعتقد السياسيون أنفسُهم أنّ هذه القضايا إذا عولجت عبر لوحة أكثر واقعية تصبح أزمة التأليف قابلة للحلّ، بل إنّ الحل يصبح اكثرَ يسراً إذا تمّت العودة الى حكومة الثلاثين وزيراً التي تتيح حلّ عقَد التوزير تقنياً، وحتى سياسياً، خصوصاً إذا توافر عاملا الثقة والساحة المشتركة بين الافرقاء المعنيين، ولكنّ مساحة عدم الثقة ما تزال كبيرةً حتى الآن، فيما انتفاخ حصصِ بعض القوى السياسية وشراهتها الاستيزارية الكبرى تصل الى حدّ إلغاء الآخرين من المعادلة السياسية.
ويرى هؤلاء أنّ أحد عناوين المشكلة السياسية التي تحوط بالتأليف هو ما يسمّى «حصة» رئيس الجمهورية الوزارية، فالبعض يؤكّد أنّ هذه الحصة تخالف أحكام الدستور المنبثق من «اتّفاق الطائف» لأنّ الرئيس في الدستور هو «رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن»، وهو حَكَمٌ بين الجميع وليس شريكاً في السلطة التنفيذية أو أيّ سلطة أخرى، ويرى هؤلاء أنّ على رئيس الجمهورية ان يعلن أنّه التزاماً بالدستور وتصحيحاً لتنفيذ «الطائف» كما وعد في خطاب القسَم، لن يقبل بأن تكون له حصة وزارية وإنه يريد تصحيح هذه المخالفة التي ارتكبَها من سبَقوه.
في حين يرى بعض آخر أن يستمر هذا العرف الآن ولمرّة أخيرة لأنّ رؤساء سابقين درَجوا عليه وهم يدركون أنّه بلا أساس دستوري، على ان يتمّ التشبث بالمعايير الدستورية في هذا الشأن بعد الانتخابات المقبلة، خصوصاً أنّ عون، في هؤلاء السياسيين، «حريص على احترام المعايير الوطنية في أدائه»، خصوصاً بعدما وصل الى رئاسة الجمهورية بصفة «رئيس لكلّ لبنان» و»بَيّ الكِل».
في الاسبوعين المنظورَين لا حكومة تلوح في الأُفق، لأن بعض المعنيين سيكونون في سَفر، والبعض الآخر غير متزحزح عن مطالبه، ولا شيء يوحي بأنّ شيئاً وشيكاً سيحصل ويقلب ظَهرَ المجَنّ إيجاباً...
فهل دخلت البلاد في مدار فراغ حكومي بعد زوال الفراغ الرئاسي؟