"كثرت في الفترة الأخيرة، حالات الانتحار، التي غالباً ما تتحوّل الى مادة دسمة لوسائل الإعلام. الّا أنّ هذا الموت المجاني، يدلّ على أنّ الشخص كان يمرّ في مرحلة صعبة أوصلته لاتخاذ هذا القرار لإنهاء مشكلاته ومخاوفه، بدل التوجّه الى الطبيب النفسي وإنقاذ حياته. تدلّ الإحصائات الصادرة عن منظمة الصحة العالمية إلى أنّ حوالى 20 في المئة من الناس يعانون من تدهور في صحتهم النفسية. البعض منهم يذهب الى المدرسة والعمل رغم اضطراباته النفسية، والبعض الآخر يعاني من الانفصام في الشخصية، ما يمنعه من التعاطي مع المحيطين به في المجتمع. وبشكل عام، فإنّ خمس سكان العالم هم عرضةً للأمراض النفسية خلال حياتهم اليومية.
أمّا في المجتمعات العربية فلا نستطيع أن نحدّد ذلك بشكل عام، لأن الأمور تختلف، فالدول الخليجية مثلاً والتي تعيش في الصحراء تتزوّج من بعضها البعض ما يشكل عبئاً جينياً يزيد من نسبة الأمراض النفسية والأمراض الأخرى.
ماذا عن الصحة النفسية في لبنان؟ وما هي طرق المحافظة عليها أو مساعدة الآخرين للحدّ منها؟ اسئلة يجيب عنها لـ"الجمهورية" البروفيسيور في العلوم النفسية والعقلية في جامعة "اوهايو" الأميركية، ورئيس زمالة الطبّ التشاوري في مؤسسة "حمد" الطبية في قطر، الدكتور عادل سليمان ابو زرعه قائلاً: "تُعرّف الصحة النفسية على أنها القدرة على التأقلم والتعاطي مع الفروض اليومية والوظائف والضغوطات دون أيّ تأثير سلبي على التفكير أو العواطف أو السلوك. وحددت منظمة الصحة العالمية، أن لا صحة من دون صحة نفسية، ما يؤكد على أهميتها.
وهنا لا بدّ أن نوضح انه لا فرق بين الصحة النفسية والجسدية وبين العقل والجسم، فكلّها أوجه لإنسان متكامل، وهي تؤثر مباشرةً في الحياة اليومية للفرد من ناحية العمل والخسارة في الانتاج جرّاء الضغوطات النفسية وعدم القدرة على التأقلم".
العوامل المحفّزة
3 عوامل تؤثر في الصحة النفسية: العامل البيولوجي، المجتمع والسايكولوجيا.
ويشرح أبو زرعه في هذا الإطار أنّ "الوراثة تحدّد كثيراً خصائص تعاطي الانسان وسلوكه مع القضايا اليومية، كالضغوطات، والحب والكره والغضب والتوتر والجنس، فكلّها عوامل بيولوجية وراثية جينية وإذا وُجد أيّ خلل أو ضعف فيها فنكون عرضةً لمشكلات عقلية ونفسية.
من الناحية الاجتماعية، يكشف المجتمع الكثير من سلوكياتنا ومعتقداتنا، ويحدّد الأمور المهمة للفرد وغير المهمة. وبالتالي تعاطي الفرد مع الأحداث والضغوطات اليومية، تحدّدها القيم الاجتماعية التي تَعلَّمها وورثها والتي يمكن أن يكون بعضها بحدّ ذاته عبئاً عليه، كما يمكن أن يخفف بعضها الآخر وطأة الأمور.
أمّا من الناحية النفسية، أي الطبع الذي وُلدنا به، وهو ليس وراثياً بحدّ ذاته، إنما مرتبط بطريقة تشابك الخلايا الدماغية وعلاقتها ببعضها والتي تحدّد الشخصية، فنجد بعض الأفراد صبورين أو متهوّرين، والبعض الآخر كريم أو بخيل. هذه الصفاة تحدّد الشخصية، ويمكن أن تكون بحدّ ذاتها مشكلة أو عنصراً مساعداً في تلافي الأمراض النفسية".
الإنتحار في لبنان
إنّ الإنتحار، هو موت مجاني يمكن تلافيه ومن الناحية العلمية. نسبة الانتحار في العالم هي 11 لكلّ 100 األف شخص، أمّا بالنسبة للبنان فيوضح أبو زرعه "إذا اعتبرنا أنّ في لبنان 6 ملايين شخص بين مواطن ولاجئ ومقيم، فننتظر أن تكون نسبة الانتحار حوالى 600 منتحر سنوياً أقله، أي بمعدل حالتي انتحار يومياً، إنما الإحصائات اللبنانية تقول إنّ كلّ 3 ايام هناك حالة انتحار واحدة، وبالتالي فإنّ النسبة السنوية للانتحار في لبنان هي بحدود 100 الى 110 وهذه النسبة لا تتعدى 3 في المئة ألف سنوياً.
وهذه نسبة ضئيلة لا تشكل مشكلة اجتماعية من الناحية العلمية، أما من الناحية الوجدانية، فالانتحار مرفوض ويمكن تفاديه بالعلاج وبالانتباه الى العوامل التي تسبقه".
دور الهلوسات
إنّ أكثر ما يدفع الانسان للانتحار هو فقدان الامل والشعور أنه محاصر وأن لا خروج من مشكلاته إلّا بهذه الطريقة، فيصبح الانتحار مخرجاً سعيداً لنهاية محزنة لحياة أليمة، ويعتبر ابو زرعه أنّ "البعض تأمره هلوساته بالإقدام على هذا الفعل"، مشدّداً أنه "عادةً يمكن الانتباه للأشخاص الذين يخططون للانتحار، فهم يتواصلون ويعطون مؤشرات لمحيطهم، كما أنّ 50 في المئة منهم يزورون طبيبهم قبل الانتحار، لأنّ الذي يفكر بالموت يكون بحاجة لأن يسأله أحد عن مشكلته، وعدم اكتراث المجتمع يؤدّي الى أن يقرّر الخروج من مأزقه بهذه الطريقة. من هنا أهمية أن نسأل الشخص الذي نراه يتألم بصمت عن مشكلته وعرض المساعدة عليه".
الوصمة ومخاطرها
يعتبر البعض أنه من المعيب التوجّه الى الطبيب النفسي، فيتكتمون عن مشكلاتهم دون البوح بها، ويشير أبو زرعه إلى أنّ "الوصمة" التي يخاف منها المريض في مجتمعاتنا البدائية تجبره على الإنطواء على نفسه، فينتحر ويأخذ سرّه معه.
لا ضرر في أن نقول إنّ مجتمعنا بدائي حتى لو كنا نلبس أحدث ابتكارات الموضة ونتناول أشهى المأكولات ونستمع الى أجدد الموسيقى، لأنه من الناحية الفكرية والاجتماعية والإنسانية، يُعتبر لبنان ضمن المجتمعات المتأخّرة حضارياً".
أهمية المحيط
يلعب المحيط دوراً مهماً في إنقاذ حياة المريض، ويقول ابو زرعه: "من المهم أن ننصح المريض عندما نلاحظ تغيّراً في سلوكه أو إنتاجيته أو تعاطيه مع الآخرين، بزيارة الطبيب من دون أن نشعره بوصمة العار، لأننا بذلك نكون ساهمنا في إنقاذ حياته.
كما أن لا ضرر من الذهاب الى الطبيب النفسي ولو أنّ الشخص لا يعاني من مشكلات نفسية، فكما نذهب سنوياً الى الطبيب العادي للتأكد من أنّ أعضاءنا بصحّة سليمة، يجب أن نتوجّه الى الطبيب النفسي لنرى ما إذا عقلنا ودماغنا وتصرّفاتنا جيدّة، وهذه الازدواجية في المعايير هي قاتلة بحدّ ذاتها".
العلاج
العلاج مهم لا بل أساسي، فهو ينقذ حياة المريض ويشرح ابو زرعه: "حالياً، نستطيع أن نعطي أدوية مفيدة وشافية، وأحياناً لا نتكلم عن شفاء لكن عن إدارة للمشكلة وتطويعها مثل أيّ مرض آخر. فلا دواء شافٍ للسكري إنما هناك دواء يسيطر على عوارضه ويخفف من مضاعفاته.
كذلك، من الناحية النفسية فبعض الأمراض يمكن شفاؤه كلياً والبعض الآخر يمكن ادارته والسيطرة عليه ومعالجته بالادوية والعلاج النفسي، خصوصاً من خلال العمل على "المعرّف السلوكي" الذي هو من اهم العلاجات النفسية المتعارف عليها في المجتمعات الطبية".
(الجمهورية)