كلّ الاستعدادات العسكرية الروسية المستجدة في سوريا توحي بأنّ موعد ساعة الصفر لبدء تنفيذ ما يصفه الخبراء العسكريون «يوم القيامة» في حلب لإخراج المعارضة من أحيائها الشرقية، يقترب. ولكن في المقابل تؤشّر معلومات ديبلوماسية أخرى إلى أنّ الرئيس فلاديمير بوتين يتبنّى منذ نحو أربعة أسابيع خيار «الحذر» في حلب، وهو خيار لا يزال حتى الآن موضعَ نقاش في موسكو حول ما إذا كان ينبغي استمراره أم أنّه يجب قطعُه لمصلحة بدء معركة الحسم في حلب.يتشكّل خيار الحذر عند بوتين، وقد صمَّمه الأخير ليواكبَ انتظارَه نتائجَ الانتخابات الأميركية وإمكانية نجاح ترامب، من عوامل عدة، أبرزُها أنّ في مقابل أنّ وزارة الدفاع الروسية تنصَح باستعجال الحسم العسكري في حلب، فإنّ بوتين، ومنذ دخلت الحملة الانتخابية الأميركية الأخيرة ربعَ ساعتها الأخير، حدَّد أنّ أولويته في سوريا هي انتظار تحقّقِ رهانِه على انتخاب ترامب، لأنّ الأخير في حال دخوله البيتَ الأبيض، سيفتح باباً أوسع لإعادة الاعتبار لتنسيق عالي المستوى بين واشنطن وموسكو في سوريا، وعليه، يجب عدم استفزاز هذه الفرصة الاستراتيجية تحت إغراء الاستعجال باستعادة حلب إلى حضن الدولة السورية الآن، خصوصاً أنّ ما يطرَحه ترامب بحسب مواقفه الانتخابية وربّما بناءً على اتصالات غير معلنة جرت معه، هو إنشاء تفاهُم أميركي - روسي جديد تجاه سوريا، يمتاز هذه المرّة بأنّه سيكون واضحَ الرؤية الاستراتيجية.
وبالاستناد إلى مصادر روسيّة، فإنّ داخل الكرملين تتسابق الآن فكرتان حول حلب؛ الأولى تفيد بأنّ الأشهر الأربعة المقبلة تشكّل فرصة لكي تستثمر روسيا عسكرياً في سوريا، انطلاقاً من أنّها تستطيع الإفادة من فراغ انتقال السلطة في البيت الأبيض بين رئيسَين، لتحقّقَ إنجازات عسكرية تكون حلب على رأسِها، ووزارةُ الدفاع الروسية متحمّسة لهذه الفكرة.
بينما فكرة الكرملين تقول إنّ المطلوب الاستثمار سياسياً في أفكار ترامب السورية القريبة لأفكار بوتين، ذلك أنّ توظيف تقاربِهما في النظرة حول سوريا، سيحقّق أهدافاً استراتيجية لموسكو أبعد أثراً من موقع حلب داخل لعبة النزاع الإقليمي والدولي على سوريا.
ومن العوامل التي تشجّع على إعطاء أولوية في روسيا لانتظار إتمام صفقة التفاهم مع ترامب حول سوريا على مباشرة الحسم في حلب، واقعُ أنّ موسكو باتت شِبه متيقّنة من فحوى المعالم الرئيسة لورقة التفاهم السورية التي يوافق عليها ترامب، وقوامُها اعترافُ الرئيس الاميركي الجديد؛ أوّلاً بأنّ الأولوية في سوريا هي للحرب على «داعش» وليس لتنحّي الرئيس بشّار الأسد... واعترافُه - ثانياً وأيضاً - بأنّ مصالح روسيا في سوريا أكبر من مصالح أميركا. وهذا أمرٌ كان يَعترف به أوباما، لكنّه لم يترجمه عملياً، بينما يتوقع بوتين أن يترجم ترامب ذلك بأفعال.
قمّة المفاجأة في هذه التسريبات الديبلوماسية التي مصدرُها مستشارون للرئيس الأميركي الجديد متقاطعة مع معلومات روسيّة، تتحدّث عن وجود «فكرة انقلابية» لدى ترامب تتّصف بأنّها أصبحت متقدّمة لجهة بلوَرتها، ومفادُها اعتزام ترامب اللقاءَ ببوتين، وذلك خلال فترة زمنية قريبة جداً وتسبق بدءَ مهمّاته الفعلية في البيت الأبيض؛ وهدفُه من اللقاء رسمُ استراتيجية واضحة بين موسكو وواشنطن لجهة أيّ شراكة يريدانها في سوريا.
أفكار عدة يتمّ تسويقها بصفتها مبرّرات جوهرية تدفع بترامب إلى عَقد لقاء مع بوتين في توقيتٍ يُعتبر مستغرباً قياساً بما هو مألوف عن الأعراف المتّبَعة في العادة لعقدِ لقاءات القمم الأميركية - الروسية التي يسبقها مشوار طويل من الإعداد لها.
أبرزُها يفيد أنّ الرئيسين الروسي والأميركي يستعجلان طيَّ مرحلة الرئيس باراك اوباما في سوريا، نظراً لأنّهما يشتركان في اتّهامها بأنّها اتّسَمت «بعدم الوضوح الأميركي الاستراتيجي» و«التردّد»، إضافةً إلى اقتناع ترامب بأنّ الوضع الدامي في دول الشرق العربي لم يعُد يَحتمل الانتظار.
ويصل سياق هذه المعلومات إلى نقطة الذروة أو إلى مفاجأته الكبرى، حينما يتحدّث عن وجود إمكانية فعلية لأن ينفّذ ترامب فكرةَ لقائه مع بوتين في العشرين من كانون الثاني ٢٠١٧، وهو موعد تكمن غرابتُه في أنّه يسبق موعد تسلّمِه الفعلي لمقاليد الحكم في البيت الأبيض.
وسيشكّل هذا اللقاء، في حال حصوله وفق التوقيت الآنف، صدمةً للنظم المألوفة في العلاقات الدولية، وسيُعتبر أقوى مؤشّر عملي على أنّ العالم يقف في هذه المرحلة أمام رئيس اميركي «مختلف»، كما وصَفه متخصّصون في الحياة السياسية الأميركية الداخلية، وذلك ليشخّصوا عدم صحّة توصيفه بـ«الجنون والتهوّر» التي ساقها ديموقراطيون ومعظم الإعلام الأميركي ضده خلال الحملة الانتخابية. وبالعودة إلى ما يمكن أن تشهده حلب خلال الفترة القريبة المقبلة، فهي تقع حسب توقّعات متابعة عند ثلاثة احتمالات:
ـ الاحتمال الأوّل، بدء حملة عسكرية برّية وجوّية وبحرية روسيّة كبيرة لتصفية وجود المعارضة في الأحياء الشرقية من حلب. وهذه النظرية تؤيّدها وزارة الدفاع الروسية وتفضّلها على «خيار الحذر» الذي يُبديه بوتين حيال بدء معركة الحسم، وذلك لأسباب تتعلق برهانه على أنّ مجيء ترامب سيَفتح باب أفقِ الحلّ السياسي بالتعاون مع موسكو.
ولا يعني موقف بوتين أنّه استبعَد نهائياً قرار بدء معركة الحسم في حلب خلال فترة قريبة، فهو لا يزال أحدَ خياراته المُحتملة، خصوصاً أنّ هناك توقّعاتٍ ترشح بأن ينجرّ بوتين الى تبكير موعد فتحِ معركة حلب، بفعل تطوّرات كبيرة تحصل في ميدانها. وأيضاً بفعل أن تنجح وزارة الدفاع في إقناعه بأنّ عليه إخراج المعارضة من حلب قبل أن يبدأ مراجعة الموقف في سوريا مع ترامب، لأنّ ذلك يجعله في موقع أقوى.
كما أنّ وزارة الدفاع الروسية تطرَح على بوتين، بحسب مصادر روسيّة، ضرورةَ إنهاء معركة حلب في أسرع وقت، لأنّ ذلك يُحرّر نحو خمسين ألف مقاتل مع النظام منخرطين فيها، ويجعلهم جاهزين للتوجّه إلى جبهات أخرى في سوريا ثمّة مصلحة استراتيجية لروسيا في خوضها، مِثل معركة دير الزُّور وربّما الرقة التي تُعتبر أصعبَ من معركة الموصل، والتي تشكّل لأميركا أحجيةً، لأنّ الأخيرة تعترف بأن ليس هناك أيّ قوّة محلية من حلفائها قادرة على خوضها بكفاية.
ـ الاحتمال الثاني، يتوقع أن تكتفي موسكو في هذه الفترة، بإعادة الوضع في حلب إلى ما قبل بدء هجوم «جيش الفتح» الثاني عليها، والذي أسفرَ عن استيلائه على ضاحية الأسد.
ويبدو أنّ إرهاصات هذا الخيار بدأت أمس الأوّل، حيث تمكّنَ الجيش السوري بغطاء جوّي كثيف لم تشارك فيه موسكو، مِن استعادة ضاحية الأسد. ويفترض بحسب هذا السيناريو أن يستمرّ هذا الهجوم حتى السيطرة على منطقتين أُخرَيين في المدينة، ما يَجعل مبادرة النار في كلّ حلب في يد النظام.
ـ الاحتمال الثالث: هو تجميد الوضع الميداني في حلب عند نقطة مسحِ آثار ذيول هجوم «جيش الفتح» الثاني، واستمرار القوات الروسية في سوريا، وحتى اتّضاح نتائج رهان بوتين على ترامب، بالعمل بقرار وقفِ أيّ طلعات جوّية لها فوق حلب؛ وهو قرار مستمر منذ قبل شهر ونصف الشهر، واستمرّ ثابتاً رغم تعرّضِ حلب لهجوم ثانٍ شنّه «جيش الفتح» قبل نحو ثلاثة أسابيع، ورغم أنّ قيادة أركان الجيش الروسي في حميميم طلبَت إذناً من بوتين ليتدخّل الطيران الروسي لوقفِ الهجوم، لكنّ بوتين ردّ بأن لا داعي لذلك حاليّاً.
وفي سياق آخر ذي صلة لوجستية بحتة بالحرب في حلب، تقول معلومات روسية إنّ خلاصات معارك الكرّ والفرّ في المدينة، الجارية منذ فترة طويلة تؤكّد أنّ الحرب الجوّية رغم أهميتها لا تشكّل عاملاً حازماً لحسمِها، بل يجب أن توازيها فعالية في الحرب البرّية. وربّما هذا الاستنتاج هو الذي دفعَ وزارة الدفاع الروسية لإحضار نحو خمسة آلاف مقاتل روسي إلى منطقة حلب كما نشرَت صحيفة بريطانية.
ومِن الخلاصات الأخرى أيضاً أنّ عمليات الدخول إلى أحياء المعارضة في شرق المدينة لا تُعتبر الخطة الأفضل لإنهاء وجود المسلحين فيها، بل الأفضلُ تضييق الحصار عليهم ضمن أحيائهم، بمعنى أن تنفّذ القوات البرّية السورية وحلفاؤها عملية السيطرة على مفاصل الطرق ومداخل الأحياء في المنطقة الشرقية من حلب، بغية تقطيع الأواصر بينها، وجعلِ كلّ حيّ يعاني من حصار كامل له، ممّا يسهّل تسويات إخراج المسلحين مجموعاتٍ وليس قوى كبيرة.