من الطبيعي جداً أن يجتاح الغموض مواقف العواصم الدولية، حول السياسة الأميركية في عهد الرئيس دونالد ترامب. سياسياً، ترامب قادم من المجهول. طوال الحملة الانتخابية الطويلة، لم يحدّد ماذا يريد وكيف سينفذ ما يريد، ومع مَن سيتعامل. ليس معروفاً مَن سيكون صديقه ومَن سيكون عدوّه أو حتى خصمه. يجب انتظار خطاب القسم في 20/1/2017 أولاً ومن ثم مرور مئة يوم على رئاسته، حتى تتوضح سياسته ومواقفه، للبناء عليها في العواصم المعنية.
لا شك في أن دونالد ترامب، أصبح يعرف بعد لقائه بالرئيس باراك أوباما، أن واشنطن ومعها العالم كله من البيت الأبيض، مختلف جداً عن واشنطن التي يطلّ عليها من فندقه المواجه للبيت الأبيض. الفرق كبير بين مسؤولية إدارة البلاد والسياسة الدولية، وبين إدارة «البيزنس» لتحقيق الأرباح لتضخيم ثروته. لذلك انتهى زمن التصريحات النارية والعدائية، وجاء زمن كل كلمة تصنع حدثاً يهزّ استقرار العالم أو يدعمه ومعه البورصة التي يعرف
تأثيرها، وانعكاسات هزّاتها على الثروات. أمام هذا كله، لا يمكن للعواصم إلاّ أن تسدل «ستارة» على تصريحات ترامب – المرشح وتسلط الأضواء على كل كلمة وموقف له منذ الآن.
مواقف ترامب من الشرق الأوسط كانت الأكثر غموضاً، لأنها كانت مليئة بالتناقضات، لذلك رغم كل الكلام الترحيبي البروتوكولي بالرئيس ترامب، فإن الحذر سيد الأحكام. ولا شك في أن أكثر ما يعني منطقة الشرق الأوسط مستقبلاً، هو سياسة إدارة ترامب من إيران، خصوصاً أن «الحزب الجمهوري» يمسك وفي حالة نادرة، بالبيت الأبيض والكونغرس ومجلس الشيوخ والمحكمة العليا. ما لم يرتكب الرئيس ترامب خطأ من نوع الخطيئة فستكون صلاحياته واسعة جداً لا تنافسها إلا صلاحيات «الولي الفقيه» في طهران.
بداية، فإن الولي الفقيه آية الله علي خامنئي والمحافظين المتشددين و»الحرس الثوري»، يرتاحون لوجود «الجمهوريين» في البيت الابيض وواشنطن، لأن لا شيء يشرعن التشدّد إلا التشدّد الذي يواجهه. يمكن الآن للمتشددين الإيرانيين أن يطالبوا وينفذوا سياسة «شدّ الأحزمة» في إيران على جميع الصعد السياسية والفكرية والحريات، بحجّة ضرورة تصعيد المقاومة في مواجهة «العدو الأميركي». ما يساعد مثل هذه السياسة أنه منذ فترة ولأسباب داخلية تتعلق بالمنافسة على الانتخابات الرئاسية، جرت العودة إلى الخطاب المتشدّد من أميركا وسياستها. وكانت ذكرى احتلال السفارة الأميركية في طهران قبل 36 سنة مناسبة لتجييش الشباب من جديد.
لكن موقف «الدولة» ممثلة بالرئيس حسن روحاني تبدو حذرة جداً. وفي حذرها هذا تعمل على «فرملة» التطرّف في التوجّه المعادي لواشنطن، عبر التأكيد على «ان الاتفاق النووي اتفاق دولي وليس مع الولايات المتحدة الأميركية». لذلك لا يمكن شطبه أو تعديله. وإذا كان هذا صحيحاً، فإن السؤال يبقى: ماذا عن البنود السرّية التي طالما تساءلت أوساط أميركية ودولية عنها والتي وقّعت تحت الطاولة بين الإيرانيين والأميركيين؟ ماذا سيكون موقف الرئيس ترامب منها متى اطلع على أسرارها؟ هل يأخذ بها وعلى أي مدى؟ أو يرفضها ويدخل في مواجهة مع طهران؟
هنا السؤال الكبير، ماذا ستكون سياسة ترامب تجاه سوريا والعراق واليمن؟ هل يقبل ترك إيران تعمل بهذه الحرية دون قيود ولا خطوط حمر؟ مشكلة ترامب وإيران هنا وما بينهما موسكو أن التناقضات سيدة المواقف. فإذا توافق مع موسكو، وتحمّس لسياستها في سوريا، فإنه بذلك يقوّي إيران وهذا يتناقض مع مواقفه في «قصقصة أجنحة» إيران في المنطقة؟ وإذا أراد فعلاً إضعاف إيران فإن ذلك يكون من العراق وسوريا، وهذا يؤذي موسكو وسياسة «القيصر». لذلك كله فإن البداية ستكون: ما هي سياسة ترامب مع موسكو، هل يترك لها الحرية كما فعل اوباما، أم أنه سيقرّر سياسة أخرى أكثر تشدداً أو أعمق في التفاهمات الواسعة؟
من الآن وحتى تتبلور «السياسة الترامبية»، فإن الرئيس حسن روحاني والمعتدلين يعتمدون سياسة طمأنة الداخل الإيراني بالتأكيد على أن أميركا تشهد كما أوضحت الانتخابات الرئاسية «وجود توترات وعدم استقرار وهي لذلك ستبقى فترة طويلة حتى يتم حل الخلافات فيها». بعد ذلك لكل حادث حديث.
لا يملك روحاني بعد الحدث الأميركي وفي مواجهة تصعيد خامنئي و»الحرس» والمتشددين أكثر من هذا الخطاب السياسي المطمئن، حيث إن الفريق الآخر سيعتمد التصعيد السياسي الداخلي والعسكري الخارجي خلال فترة نضوج «السياسة الترامبية» وتبلورها، لضبط الجبهة الداخلية لمصلحته ولتحقيق مكاسب خارجية تمكنه في فترة المفاوضات اللاحقة، من التفاوض من فائض ما كسبه وليس ما كسبه أصلاً.
كلما أسرع الرئيس ترامب في بلورة سياسته كان أفضل خصوصاً أن هذه السياسة بحاجة عملياً الى مئة يوم، أي حتى الربيع القادم الذي يوافق الانتخابات الرئاسية الإيرانية.
السؤال الكبير هنا: هل يُصعِّد ترامب مواقفه من إيران فيصعّب مهمة روحاني وإعادة انتخابه، لأنه من الأفضل له إمساك المتشددين في طهران، حتى يبرّر تشدّده الهادف إلى زعزعة الداخل الإيراني من الداخل، أو يلاقي اعتدال روحاني بالاعتدال تاركاً لعبة التغيير في إيران لقوى الداخل؟