لم تخل الجامعة اللبنانيّة ـ فرع الحدث من المشاهد الدينية والحزبية الحاضرة في الأعوام السابقة كي نُفاجأ كثيراً بما شاهدناه في الشريط المصوّر المنتشر مؤخراً، الذي يُظهر عدداً كبيراً من الطلّاب "يلطمون" في كليّة العلوم. هذه المشاهد باتت جزءاً غير منفصل عن المسيرة الدراسيّة لمعظم الكليات هناك. صارت صور الشخصيات الدينية كما الحزبية "أمراً واقعاً" يصعب رفضه حتى نتجنب استخدام فعل "يستحيل".
يتخذ الطلاب من الجامعة "اللبنانيّة" منبرا لإعلان ولائهم لمرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي مثلاً، وتصير جدران الكليّات جميعها معرض صورٍ للشخصيات الحزبية والدينية وشعاراتها وللشهداء أيضاً، وتصير قاعات المحاضرات مكاناً لإقامة الاحتفالات أو لإحياء المناسبات الدينية أو إلقاء خطابات. ويستطيع الطلّاب أو بعض مجالس فروعهم إلغاء عدد من المحاضرات من أجل إحياء أحد الأعياد وإعلاء صوت "الندبيات" أو الأناشيد، فيما يمنع طلّاب الهندسة، مثلاً، من إقامة احتفال بسيط في ملعب الجامعة بحجّة إزعاج الآخرين.
تقفز مجالس الفروع فوق رفض عددٍ كبيرٍ من الطلاب لما يحصل، كما يقفزون فوق قرارات رئيسي الجامعة السابقين القاضية بمنع رفع الشعارات الدينية والسياسية في الجامعة، والتي تبتعد عن هذه المشاهد الدينية أعواماً قليلة.
يحمل روّاد هذه الاحتفالات والمناسبات والمشاركون فيها خطاباً إقصائياً وهجومياً في وجه الطلّاب الرافضين، فينتقل الموضوع من إبداء انزعاج منطقيّ من السيطرة الدينية على الصروح التعليمية، ليتعرّض هؤلاء الطلاب لكثير من الاتهامات. بمجرّد نقد الأحداث التي تنتزع من قيمة الجامعة اللبنانيّة كمكان للتعلم، تُتهم إحدى الطالبات بالانتقاص من قيمة الشهداء والشخصيات الدينية، الأمر الذي يصعب غفرانه، وهذا قد يؤدي في بعض الأحيان إلى تهديدات شخصية.
تغضّ الإدارة الطرف عن هذا الموضوع، رغم كلّ الامتعاض الذي يسبّبه فرض تحويل اللبنانية إلى باحة للاحتفالات والمناسبات الدينية. لا بل تقفُ في بعض الأحيان مدافعة عن هذه المناسبات ومشاركة الطلّاب فيها. تترافق هذه الأفعال مع حملات هجومية ودفاعية على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، تكون رائدتها صفحة كليّة العلوم (كلية الشهداء)، على "فايسبوك"، والمسؤول عنها محمد فحص، الذي افتخر بالحدث الذي ظهر في الشريط المصوّر مبرراً بأنهم بعيدون عن حفلات "التعري" على الأقلّ. تتحول هذه الصفحة بجهود المسؤول عنها من صفحة لكليّة "العلوم" إلى مكان للعلوم الدينية، وليتها دينية. تصير صفحة الكليّة مكانا للتحريم والتحليل والتكفير ولإطلاق الفتاوى الشرعية، بالإضافة إلى الهجوم على كل من يعارض هذه الفتاوى. كأن الجامعة اللبنانية أصبحت ولاية دينية تابعة لدولة إسلامية، علماً أنّ الطلاب في تلك الدولة يفصلون إلى حدّ كبير بين العلم ومعتقداتهم الدينية، ويهتمون بالعمل من أجل إعلاء دولتهم على الصعيد العلمي.
صارت الجامعة مركزاً لممارسة المعتقدات الدينية والمناسبات الحزبية والاحتفال بها، عند قدومك إلى الجامعة من أحد مداخلها تستطيع أن تعلم مدى بعد هذا الصرح التعليمي الكبير عن "تعليم" أي شيء. خلال رحلة بسيطة من المدخل الجنوبي إلى المدخل الشمالي تستطيع أن تستكشف كيف تتحول باحة كلية الإدارة العامّة إلى "حسينيّة" فتجدها مليئة بالصور والأعلام والأشرطة السوداء، بالإضافة إلى شعارات حزبيّة. وتستطيع أن تدخل إلى كليّة الهندسة مثلاً لترى حبالاً تحمل صور شهداء قد تعرقل مرور الطّلاب تحتها. في هذه الكليّات كما غيرها عدد كبير من الطّلاب الذين يرفضون كلّ ما يحصل بصمت، وإن عبّر أحدهم عن رفضه، يصبح في لحظة متطاولاً على الذات الإلهية ومشجعاً على الكفر والإلحاد وغيرهما.
لا تكمن المشكلة في الأحداث التي تلحق حصول المشاهد المذكورة فقط، إنما في شلل إمكانية التغيير الذي يسببه تعاون الإدارة الصامت وغضّ الطرف من قبل الرئيس ووزير التربية اللذين يهتمان بالاعتبارات السياسية فقط. المعضلة الكبرى هي في أنّ هذه المظاهر بدأت تتجذر في قواعد التعليم والأمور الأكاديمية في الجامعة اللبنانية. أصبح ازدياد وتيرة المظاهر تلك يتماشي يدا بيد مع المناهج التعليمية، ما يزيد من غرق الجامعة اللبنانية وتخبطها في مستوى يتضرر يوماً بعد يوم ما يجعلنا نحزن لما آل إليه الوضع هناك.
لا يستطيع الطلاب المنادون بإقامة الاحتفالات الدينية والسياسية التدخل كثيراً في مناهج الاختصاصات العلمية وموادها، إلّا أنهم يقومون بطبع بعض الشعارات أو الرموز الحزبية على بعض الكتب، ويستطيعون من خلال بعض مجالس فروعهم إدخال الدين والطائفة والحزب والواسطة في تسهيل المعاملات الإدارية، أو حتى تسريب الامتحانات في بعض الكلّيات. أمّا في بعض الاختصاصات غير العلميّة حيث يمكن للمعتقدات الدينية والاعتبارات المذكورة سابقاً أن ترى طريقاً للدخول، فنرى ما نجده خارج القاعات وداخلها من صور واحتفالات و "ندبيّات" ملموسا في طريقة التعليم أو التعامل مع المنهج التعليمي لتلك الاختصاصات كالعلوم السياسية مثلاً.
وهكذا، نقفُ في معظم الأحيان عاجزين عن التعبير عن انزعاجنا مما نراه في الجامعة اللبنانية إلّا في بعض المنافذ البسيطة التي قد لا توصل ما نريد إيصاله. ولكن، كلّ ما يحصل هناك يزيد من تأكيد أهمية التعليم والصروح التعليمية والعمل على تحسين مستواها من أجل التأثير والتغيير في المجتمع على المستوى البعيد. أما في الوقت ذاته، ومرافقة مع التفكير جديّاً بفكرة العمل على التعليم في لبنان، فنعوّل على بعض المحاولات التي تقوم بها بعض المجموعات في فرع الحدث على الأقل من خلال ندوات ومحاضرات وحوارات تكسر قليلاً من موجة السيطرة الدينية والحزبية ـ الطائفية التي حولت "اللبنانية" على فترة الأعوام السابقة إلى مقر ديني حزبي يتبنى السياسة الهجومية الإقصائية.
السفير